عداد لا يتوقف من القتلى والمصابين المدنيين في غزة، قصف إسرائيلي لا يهدأ جوا وبرا وبحرا.. وسؤال ربما دار في ذهنك أو سمعته من أحد المحيطين بك أو حتى قرأته في مكان ما، لماذا لم تبن حماس ملاجئ للشعب الفلسطيني؟.
ولعل السؤال قد يبدو أهم، لأنه وفي نفس الوقت بنت الحركة أنفاق لا حصر لها يحتمي فيها مقاتليها .. فهل تميز بين مقاتليها وبين المدنيين في مكان ضيق لا دفاع جوي فيه مثل غزة؟.
الإجابة عن هذا السؤال تحتاج في الطريق إليها العديد من الإجابات عن أسئلة أخرى، لنصل في النهاية إلي حكم منطقي خالي من العاطفة.
هل كانت حماس قادرة من الناحية الفنية بناء ملاجئ يختبئ فيها أهل غزة؟:
قولا واحدا الإجابة هي ((نعم)).
في مطلع فبراير من هذا العام نشرنا تقريرنا (أنفاق غزة .. عندما تبدع المقاومة هندسيا تحت الأرض).
المتطلع إلى هذا التقرير يدرك وبسهولة امتلاك حماس الكوادر الفنية والأيدي العاملة والعلم اللازم لذلك، لقد بنوا غزة ثانية لكن هذه المرة تحت الأرض.
لماذا لم يتم بناء ملاجئ تحت الأرض لحماية المدنيين في غزة؟:
إذن طالما كانت حركة حماس قادرة على بناء تلك الملاجئ بالفعل.. فما الذي منعها من ذلك؟.
في الحقيقة هناك بعض الأسباب التي قد تجعل من غير المجدي كثيرا بناء تلك الملاجئ، ومنها مثلا:
السبب الأول: طبيعة العدو:
لم يتورع الجيش الإسرائيلي طوال تاريخه عن إرتكاب المذابح البشعة في كل حروبه سواء ضد غزة أو غيرها، وما الطنطورة منا ببعيد.
اثنان من الفنيين التابعين للقوات الجوية الإسرائيلية يقومان بتركيب قنبلة على نقطة تعليق أسفل جناح إحدي الطائرات قبل انطلاقها لقصف غزة، صورة من Israeli Air Force. |
في غزة نفسها، وجهت الطائرات والسفن الحربية والمدفعية الإسرائيلية نيرانها ضد كل الأهداف المدنية داخل القطاع، ليس فقط منازل المدنيين، بل إن المستشفيات نفسها تم ضربها.
ولعل أبرز مثال فوق الأرض لتجمع المدنيين -والذي كان سيماثل فكرة الملاجئ تحت الأرض لو تم بناؤها- هي مدارس منظمة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والتي تم قصفها أيضا وارتكب فيها مذابح مروعة، وكذلك الخيام البلاستيكية التي اشتعلت فيها النيران.
والحجة الإسرائيلية الملفقة مغلفة دوما وجاهزة للاستعمال، لقد كان هناك إرهابيا هنا وقمنا بقصف المكان من أجل قتله.
بل كان لزاما علينا نحن العرب أن نتذكر أننا يوم بنينا ملاجئ لم يشكل ذلك حماية لنا، فهل نسينا قصف بغداد إبان معارك عاصفة الصحراء وبالتحديد في هجوم وقع في 13 فبراير / شباط 1991 على (ملجأ العامرية) واستشهد فيه أكثر من 400 مدني عراقي.
هذا ما حدث في العراق .. ولك أن تعلم أيضا أن أمريكا أسقطت فوق بلد ضخم مثل العراق خلال حرب العام 2003 بأكملها نحو 29 ألف قنبلة، هذا الرقم بالضبط أسقطته إسرائيل فوق غزة الصغيرة المساحة خلال الأسابيع الستة الأولى من الحرب فحسب كان من بينها 6 آلاف قنبلة خلال أول ست أيام فقط من الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023 ((أي بمعدل ألف قنبلة يوميا)).
في خلال شهرين تعرضت غزة لأكثر مما تعرضت له حلب السورية على مدار أربعة أعوام بين عامي 2012 و 2016، وأصبحت لا تقارن إلا مع قصف الحلفاء لألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية.
السبب الثاني: امتلاك إسرائيل القدرة على تدمير تلك الملاجئ:
فإذا كانت إسرائيل لن تتورع عن ضرب تلك الملاجئ في حال وجودها في غزة، فإن كل ما ينقصها إذن هو امتلاك الذخيرة اللازمة لذلك .. وهذا هو الأمر الواقع بالفعل.
إذ تمتلك القوات الجوية الإسرائيلية ضمن ذخائر (جو - أرض) لديها:
- قنابل GBU-27 Paveway III: وهي للمفارقة نفس القنبلة التي استخدمها الأمريكيين في ضرب ملجأ العامرية، وهي أصلا من القنابل المصممة لضرب وتدمير الملاجئ والتي يطلق عليها Bunker buster أو خارقة التحصينات والتي تستطيع ضرب الأهداف المدفونة تحت الأرض.
طائرة مقاتلة إسرائيلية من نوع F-16I تظهر وهي تحمل أسفل جناحها قنبلة من نوع BLU-109، Israeli Defence Forces Spokesperson's Unit. |
- قنابل BLU-109: وهي كذلك من الذخائر Bunker buster أو خارقة التحصينات، وتعمل بمبدأ أن تقوم أولا باختراق الأرض ثم الهدف تحتها ثم تنفجر.
- قنابل Mark 84: كانت هذه القنابل تعتبر ثالث أثقل قنبلة في ترسانة القنابل المصنوعة أمريكيا، وظهرت لأول مرة في حرب فيتنام، وهي قنبلة غير موجهة، قادرة على تشكيل حفرة بعرض 50 قدمًا (15 مترًا) وعمق 36 قدمًا (11 مترًا). كما يمكنها أن يخترق ما يصل إلى 15 بوصة (38 سم) من المعدن أو 11 قدمًا (3.4 مترًا) من الخرسانة، اعتمادًا على الارتفاع الذي يتم إسقاطها منها من الطائرة، وتتسبب في دائرة قتل يصل نصف قطرها إلي 400 ياردة (370 مترًا).
هل هذا السؤال برئ؟:
ثم دعونا نفكر قليلا .. هل هذا السؤال برئ أصلا.
ربما يكون الأمر كذلك .. حتى كاتب التقرير الذي تقرأه أنت الآن فكر فيه، لكن دعونا نفرق بين هذا، وبين من يطرحه للانتقاص من حماس أو توجيه السهام تجاهها، في نفس الوقت الذي توجه إسرائيل فيه نيرانها ضد غزة كلها.
هذا السؤال أيها السادة طرحته صفحة ((إسرائيل تتكلم العربية)) في خضم حرب العام 2014، ولعلها أساءت لنفسها من حيث أرادت أن تظهر حماس وكأنها لا تعبء بالشعب الفلسطيني.
صفحة اسرائيل تتكلم العربية تثير نفس السؤال في خلال حرب العام 2014. |
ففي هذا السؤال نوع من الإعتراف بأن نيران جيشها تقتل المدنيين الفلسطينيين.
أيضا، فإنه يمكنك أن تتفق مع الحركة كما شئت، لكنك لن تستطيع تجاهل أو إنكار أنها قدمت قادتها الكبار وأبنائها شهداء على الطريق.
الشيخ المؤسس أحمد ياسين تم اغتياله، وتبعه مباشرة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، ثم أبناء الدكتور خليل الحية، وحتى في الحرب الحالية شهدنا مقتل عدد من أبناء وأحفاد إسماعيل هنية بضربة نفذها الجيش الإسرائيلي في غزة.
ما ذكرناه من أسباب عملية، وما تبع ذلك من بيان طبيعة السؤال نفسه، كان هو ما يجب أن يجيب به القيادي في حركة حماس (موسي أبو مرزوق) حينما طرح عليه نفس السؤال في لقاء سابق أجرته معه قناة (روسيا اليوم).
اخطأ أبو مرزوق حينما قال أن الانفاق هي لحماية المقاتلين أما حماية المدنيين فهي مسؤولية الأمم المتحدة.
اخطأ -وجل من لا يخطئ- لأن حماس هي حاكم قطاع غزة والسلطة المسيطرة فيه وهي بالتبعية المسؤولة عن حماية المدنيين فيها.
كما أخطأ لأنه وأنت يا عزيزي القارئ وجميعنا نعلم أن الأمم المتحدة لا تحمي أحد تهاجمه إسرائيل .. وهم يعلمون ذلك جيدا.
والنتيجة ان هذا الفيديو يستخدم حاليا لتوجيه أسهم الانتقاد القاسية ضد الحركة.
هل يمكن بناء ملاجئ تحمي المدنيين في غزة؟:
برغم كل الأسباب السابقة، وحتى الحديث عن طبيعة السؤال والفكرة نفسها، فإننا لا ننفي تماما إمكانية بناء ملاجئ تحمي المدنيين في غزة.
هناك أنواع حديثة من الملاجئ التي يطلق عليها اسم (ملاجئ يوم القيامة)، تتميز بأنها أكثر قدرة على مقاومة القصف الجوي بالأسلحة المخصصة ضد الملاجئ .. وبالرغم من أنها قد لا تضمن حماية بنسبة 100٪ إلا أنها أفضل بالتأكيد من الملاجئ التقليدية.
لكن هذه الملاجئ أسعارها فلكية (قد تصل إلى 8 مليون دولار)، وهو رقم فلكي بالنسبة لميزانية حماس، لذا فيا أيها السيدات والسادة الذين تريدون حماية المدنيين في غزة، خصصوا لهم تلك الأموال أولا.
نعم قد ننتقد حماس بعض الشئ .. وقد نقول أنها كان لزاما عليها أن تبني ولو بعض الملاجئ .. لكن لننتقد هذا الصمت والعجز الدولي التام عن وقف أبشع جرائم القرن الحادي والعشرين.