بينما تحشد روسيا قواتها ومعداتها العسكرية بالقرب من حدودها مع أوكرانيا، وتصاعد الحديث عن احتمالات قيامها بغزو عسكري لأوكرانيا، بدأ الحديث يدور أيضا عن قضية إستراتيجية في غاية الأهمية، والتي تدور في أساسها حول سؤال (كيف ستتأقلم أوروبا إذا ما قامت روسيا بقطع إمدادات الغاز الطبيعي عنها)، ما صاعد من التوترات في سوق الغاز الطبيعي عالميا.
حقل زابوليارني لاستخراج الغاز الطبيعي في روسيا، والذي تصل طاقته الانتاجية نحو ١٣٠ مليار متر مكعب سنويا، Russian Federation Government، (CC BY. 3.0)، via Wikimedia commons |
من أين تستطيع أوروبا أن توفر لنفسها إمدادات الغاز الضرورية للمصانع وللكهرباء طوال العام، وللتدفئة في شتاء القارة القارص، إذ يأتي حوالي ٣٥ في المائة من الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي من روسيا، في حالة ما قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقطع الغاز عن جيرانه الأوروبيين، كرد على العقوبات التي لوح بها الغرب في مواجهته إذا ما بدأ غزو لأرض أوكرانيا.
وضع خطير:
يري الأوروبيين أن من بين أهم ما أظهرته التوترات الأخيرة مع روسيا هو خطر اعتماد أوروبا على روسيا في مجال الطاقة، إذ يزود الروس القارة العجوز بثلث الغاز الطبيعي الذي تستهلكه.
لذا، فإن سوق الغاز الأوروبية معرضة للإضطراب الشديد إذا ما هاجمت روسيا أوكرانيا، فالأوروبيين يتهمون روسيا أنها ستستخدم الغاز الطبيعي للضغط كسلاح موضوع على رقبة أوروبا، غير عابئين بالعقوبات التي ستفرض عليهم من أوروبا وأمريكا، معتمدين على ٦٣٠ مليار دولار أمريكي من الاحتياطي النقدي الذي وفره بوتين خلال سنوات حكمه المديد لروسيا التي استلمها في وضع لا تحسد عليه في جميع المجالات.
كثير من المحللون غالبًا ما يطلقون على الغاز الطبيعي اسم (سلاح الغاز).. إنه مصطلح قد يعيد للأذهان قطع العرب للنفط عن الولايات المتحدة وأوروبا خلال حرب أكتوبر ١٩٧٣، والتي تحدث عنها المشير أحمد إسماعيل على ، وزير الدفاع المصري خلال الحرب في مذكراته.
سيناريو الكارثة:
الشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الغاز تقوم كل أربع سنوات بإجراء محاكاة لسيناريوهات الكوارث المحتملة، وذلك لتكون قادرة على التعامل معها إذا ما وقعت بالفعل.
في العام الماضي ٢٠٢١، تم تنفيذ أحدث تمرين لمواجهة الكوارث، والذي شمل مواجهة ٢٠ حالة من حالات الكوارث.
كانت نتيجة تدريب الكوارث الأخير، أن البنية التحتية الأوروبية للغاز، توفر مرونة كافية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بضمان أمن إمدادت الغاز الطبيعي.
لكن تمرين مواجهة الكوارث هذا لم يفحصوا الشبح الذي يخيم على أوروبا الآن، ماذا سيحدث إذا غزا فلاديمير بوتين أوكرانيا، ورد الغرب بفرض عقوبات على روسيا، فرد بوتين بإغلاق جميع خطوط الأنابيب التي تنقل الغاز الروسي إلى الغرب؟.
هذا بالطبع مع الأخذ في الاعتبار أن مخزون أوروبا من الغاز الطبيعي منخفض أصلا ولن يكفيها في حال طول مدة الصراع، ذلك لأن الشتاء البارد استنفذ جزء كبير من مخزون الغاز في تدفئة المنازل، كما أن الصيف الماضي شهد توليد كميات قليلة من الطاقة عبر مصادر الطاقة المتجددة، علاوة على أن الروس بدأوا بالفعل في تقديم كميات أقل من الغاز.
ارتفعت أسعار الغاز بشكل كبير ، مما أدى إلى الضغط على الأسر والشركات بسبب زيادة الفواتير، لذا فإن الأمر سيكون كارثيا بالفعل لو قطع الروس غازهم الطبيعي.
أمن الطاقة في أوروبا:
في دراسة للبروفيسور إيمي مايرز جاف، وهي أستاذة أبحاث بكلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأمريكية، فإن روسيا توفر ما يقارب من نصف الغاز الطبيعي لأوروبا وليس ٣٥٪ فحسب.
وتتابع البروفيسور مايرز جاف أنه من المحتمل في حالة إندلاع حرب أو أعمال دعائية بين روسيا وأوكرانيا أن تقطع موسكو أو تخفض على الأقل إمدادات الغاز الطبيعي التي تضخها لأوروبا.
الخطر في هذا السيناريو أن تقرر روسيا وهي أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم استخدام الغاز كسلاح في فرض الصمت على الأوروبيين وهم يشاهدونها تحتل شرق أوكرانيا أو تسقط حكومتها الموالية للغرب، أو حتى تبتلع أوكرانيا كلها.
لكن لاتزال التوقعات تشير إلي أنه من المستبعد وقف روسيا تصدير الغاز الطبيعي بشكل كامل، لأنه سيكون سيناريو مدمرًا للطرفين.
روسيا لن تقطع الغاز عن أوروبا:
يعتقد العديد من المحللين أن حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن توقف وصول الغاز إلى أوروبا لأن هذا القرار سيجعل الروس وكأنهم يطلقون النار على أقدامهم.
ببساطة قرار وقف روسيا لإمدادات الغاز الطبيعي إلي أوروبا، وكما سيضر الأوروبيين، سيضر كذلك بالصادرات المستقبلية والأرباح لقطاع الطاقة الروسي.
الكرملين نفي مرارًا مزاعم أنه يستخدم الغاز كسلاح جيوسياسي ، كما قالت شركة غازبروم الروسية المسؤولة عن تصديره إنها أوفت بالتزاماتها التعاقدية تجاه العملاء، وهذه النقطة بالذات جعلت البعض يشير إلي أن كل هذا الملف صناعة أمريكية، بهدف ضرب روسيا اقتصاديا عبر وقف تصديرها الغاز إلي أوروبا أو تقليله إلي أدني قدر ممكن.
يؤيد ذلك الراي كثيرون منهم ثين جوستافسون ، وهو مؤلف كتاب "كليمات" ، أحد أهم الكتب التي تتحدث عن الطاقة الروسية ، مشيرا إلي أنه حتى في ذروة الحرب الباردة ، لم يقم الاتحاد السوفيتي بوقف صادرات الغاز إلي أوروبا.
الدور الأمريكي:
في القلب من هذا الملف، يتواجد الأمريكيين، برغم أنهم ليسوا المصدرين ولا المستوردين.
الرئيس الأمريكي جو بايدن يقول أن خط (نورد ستريم ٢) الذي سيزيد من إمدادات الغاز الطبيعي الروسي لأوروبا، لن يمضي قدمًا إذا غزت روسيا أوكرانيا، وذلك كجزء من العقوبات التي يصفها الغرب بأن التاريخ لم يشهد مثلها والتي ستفرض على موسكو في حالة الغزو.
كانت تصريحات بايدن في مؤتمر صحفي مشترك مع المستشار الألماني (أولاف شولز) في البيت الأبيض، تصريحات أتت في حضرة أكثر المعتمدين على الغاز الروسي في أوروبا.
المستشار الألماني ورغم أن بلاده لديها علاقات هي الأفضل أوروبيا مع روسيا، أبدى "اتفاقه الكامل" مع بايدن في مسألة فرض عقوبات على روسيا إذا فشلت الدبلوماسية وأقدم الروس على غزو أوكرانيا.
وبحسب التصريحات فإن المستشار الألماني مستعد لوقف مشروع أنابيب نقل الغاز الطبيعي Nord Stream 2نورد ستريم ٢، إنه وريد الغاز الطبيعي الذي يتكلف مليارات الدولارات (١٠ مليار يورو= ١١،٥ مليار دولار) ليصبح وسيلة نقل الغاز الطبيعي الممتد من روسيا إلى ألمانيا بقدرة نقل ١١٠ مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، ممتدا بطول ١٢٣٠ كم.
أمريكا إذن تريد أن تقلب الطاولة على الروس، أن تترك لهم بترولهم وغازهم الطبيعي لكي يشتروه، وتتعهد هي أنها ستزيد من كميات الغاز الطبيعي المسال LNG التي تصدرها إلي أوروبا.
بدائل الغاز الروسي:
هناك العديد من الدول التي قد توافر بديلا مناسبا للقارة الأوروبية، فالغاز الطبيعي متوافر لديها، ولن يمثل استيرادها منها أي مشاكل أو اعتبارات سياسية.
لكن هذه الدول هناك بعض الأسئلة المتعلقة بتصديرها للغاز الطبيعي إلي أوروبا، بداية من مسألة تحويله إلي غاز طبيعي مسال من الممكن استخدامه، ثم أن غاز هذه الدول يتم تصديره إلي دول أخرى خارج الاتحاد الأوروبي بالفعل، فماذا سيكون تأثير تحويل هذا الغاز لأوروبا على الأسواق غير الأوروبية؟.
لكن مع اكتشافات الغاز المتتالية خلال السنوات الماضية في البحر المتوسط، فإن دول مثل مصر وتركيا وإسرائيل قد تجد في هذا التوتر كله فرصة لزيادة ما تصدره من حقولها البحرية الجديدة، علاوة على دولة مثل قطر أحد أقطاب الغاز الطبيعي في العالم.