الأحدث

تاريخ النفط في السعودية.. قصة اكتشاف البترول في المملكة

سيظل تاريخ ٣ مارس ١٩٣٨ يوما لا ينسي في عمر المملكة العربية السعودية، ففي هذا اليوم تم اكتشاف النفط لأول مرة في السعودية.

مثل اكتشاف البترول في السعودية الحدث الأهم في تاريخها منذ قرون، وكما في الصورة حولها من دولة تسير بسرعة الجمل إلي دولة تحلق في آفاق السماء، وفي الخلفية بئر بترول، كلمة السر فيما حدث، Robert Yarnall Richie photograph collection، Southern Methodist University's Central University Libraries (CUL)، No known copyright restrictions. 


كان ذلك حلما طويلا، حركه الفضول نحو الاستكشاف، والرغبة في التنمية الاقتصادية وتعظيم موارد المملكة التي كانت صحراء قاحلة فأصبحت في يومنا هذا أحد أكبر مصدري الذهب الأسود على مستوي العالم، ومالكة ١٧٪ من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم.


رحلة طويلة:


لم يكن اكتشاف النفط في السعودية أمرا سهلا، بل مر بالكثير من العقبات والاحباطات، وظن الكثيرون أحيانا أنهم يطاردون السراب في الصحراء السعودية المترامية الأطراف.

وكان الأهتمام بالعثور على النفط في السعودية قد بدأ منذ مطلع القرن العشرين، خصوصا بعدما اكتشف الجيولوجي جورج برنارد رينولدز النفط في بلاد فارس (إيران حاليا) في مارس من عام ١٩٠٨، بعد سنوات من الظروف الصعبة والفشل.

وتأكد أن المنطقة حبلي بالبترول بالفعل بعدما عثرت شركة النفط البريطانية التي تسمي حاليا (بريتش بتروليوم) على النفط في الموصل الواقعة حاليا في العراق، قبيل الحرب العالمية الأولى.

حاولت الشركات الغربية التنقيب عن النفط في الجزيرة العربية، لكن هذه المشاريع توقفت بسبب الاضطرابات التي كانت تعصف بها حينها، وخصوصا الثورة العربية على حكم العثمانيين والتي تزامنت مع الحرب العالمية الأولى التي اندلعت شرارتها في ٢٨ يوليو ١٩١٤. ((يمكنكم من خلال هذا الرابط الإطلاع على تقريرنا الهام عن كتاب البنادق في أغسطس للكاتبة الأمريكية الشهيرة باربرا توكمان، وهو أهم كتاب تناول الحرب العالمية الأولى، ووصف بأنه منع اندلاع حرب نووية بين أمريكا والاتحاد السوفيتي خلال أزمة الصواريخ الكوبية)).

نحن الآن في العام ١٩٢٣، قد وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها في نوفمبر ١٩١٨، اكتشف الإنسان في (الحرب العظمي) كما سميت حينها العديد من الأشياء، اكتشف الطيران الحربي والدبابات، اندفعت الشاحنات والعربات المدرعة، وانتهي عصر الفرسان والخيول في الحروب.

وفي العالم المدني، سارت السيارات على الطرق بدلا من الخيل والبغال والحمير، وبدأت شركات الطيران المدني في الانتشار وتقريب المسافات بين مدن العالم، والمصانع تتشوق هي أيضا للطاقة، العالم كله يسعي خلف الاكتشافات البترولية.


منح الامتياز وبداية الرحلة:


بحسب الموسوعة البريطانية Britannica، فإن الملك المؤسس للدولة السعودية (الملك عبد العزيز آل سعود) منح امتياز التنقيب عن النفط لشركة بريطانية في وقت مبكر من عام ١٩٢٣، لكن محاولات الشركة لم تسفر عن شيء، وبالأحري فإن أكثر من مصدر وقع بين أيدينا في بحثنا هذا، ذهب إلي أن البريطانيين لم يجروا أي عمليات بحث من الأساس.

لكن الآمال بعثت في النفوس مجددا، وكان السر وراء ذلك اكتشاف النفط في مملكة البحرين عام ١٩٣٢، ما عزز احتمالات تواجده في بقية أرجاء منطقة الخليج العربي، خصوصا مع النجاحات السابقة في إيران والعراق.

امتياز آخر منحه الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود في ٢٩ مايو ١٩٣٣ (الموافق ٤ صفر ١٣٥٢ ه‍‍) إلي شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا ((سوكال)) الأمريكية للتنقيب عن النفط في السعودية (شركة شيفرون حاليا).

في عهده تم كل شيء، الملك عبد العزيز آل سعود، الذي حاول كثيرا وصبر طويلا حتى اكتشف النفط في السعودية، هو أيضا من اختار الأمريكيين لتلك المهمة وحليفا إستراتيجيا دائم، Wikimedia Commons، public domain. 


وبمقتضي هذا الامتياز، تم إنشاء شركة "كاليفورنيا أرابيان ستاندارد أويل كومباني" أو (كاسوك) لتشرف على اكتشاف النفط في السعودية.

كانت أمريكا قوة صاعدة في ذلك الوقت، لم تكن الدولة العظمي التي نعرفها اليوم، وكانت لا تزال تستكشف العالم، وتبحث عن موطن قدم لها هنا وهناك، وخصوصا في المناطق الغنية بالبترول أو التي من المتوقع أن يعثر فيها عليه، فتلاقي الطموح الأمريكي بالصعود العالمي، مع الأمل السعودي القديم باكتشاف النفط في باطن الأرض.

وفي ٢٣ سبتمبر من ذات العام ١٩٣٣، وعلى متن سفينة، وصلت مجموعة من الجيولوجيين الأمريكيين في ميناء الجبيل على الخليج العربي، لتبدأ رحلتها وسط رمال الصحراء التي سيكتب لها تغيير مجري التاريخ السعودي.

بحسب (مكتبة الكونجرس الأمريكي) كانت السعودية في ذلك الوقت واحدة من أفقر دول العالم، وكما تصفها شبكة سي ان ان الأمريكية، فقبل اكتشاف النفط كان العالم يعرف عن السعودية شيئين لا ثالث لهما، أولهما صحاريها الشاسعة، والشيء الثاني أنها موطنًا لأقدس موقعين من المواقع الإسلامية (مكة المكرمة والمدينة المنورة).

على ظهور الجمال، انتقل الجيولوجيين الأمريكيين في رحلة ستأتي بالبنزين للسيارات في جميع أنحاء العالم تقريبا، ووصلوا إلي منطقة (جبل البري) الذي يبعد ١١ كم جنوب الجبيل التي نزلوا من السفينة إليها، ثم توغلوا في منطقة جبال الظهران بحثا عن هدفهم المنشود (البترول).


الاكتشاف الأول:


كانت محاولات التنقيب طويلة وثقيلة، وربما نستطيع أن نستوعب ذلك كنتيجة لاتساع الصحراء السعودية من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب ضعف الإمكانيات التكنولوجية في ذلك التوقيت، ما جعل الكثير من جهود التنقيب عن النفط تشبه عمليات التخمين.

وإذا ما بحثنا في القاموس عن كلمة لتصف شعور المستكشفين الأمريكيين في تلك الفترة، فربما تكون كلمة (الشك) هي الأكثر ملائمة، فسنة تلو أخرى تمر ولا نتيجة.

كان الشك في الأرجاء، هل ستثمر هذه الجهود ام ستذهب سدي، هل ينبغي الاستمرار في انفاق المال على التنقيب، هل وصلنا إلي نصف الطريق ام اقتربنا من الغاية، ام أن البترول غير موجود هنا أصلا بكميات تكفي لازدهار المشروع والبلد نفسه. 

لكننا أيضًا إذا فتشنا عن اسم كان له الفضل الكبير في مواصلة العمل، فإنه وبلا شك (ماكس ستينكي) كبير الجيولوجيين في شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا ((سوكال)) صاحبة الامتياز، الذي صمم على مواصلة العمل.

نحو خمس سنوات منذ منح الملك عبد العزيز آل سعود الامتياز الثاني لشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا ((سوكال)) الأمريكية، حتى اكتشفت أخيرا وبعد طول انتظار أول بئر بترول ينتج كميات تجارية في السعودية (بطاقة ١٦٠٠ برميل يوميا).

ماكس ستينكي، الرجل الذي تدين له السعودية بكثير من الفضل في اكتشاف النفط، صورة له بالزي السعودي التقليدي، التقطت عام ١٩٣٨، (CC BY-SA 3.0)، via Wikimedia commons. 


بالتحديد كان ذلك في البئر رقم ٧، الذي حفر حتى عمق ١٤٤٠ مترا، في حقل الدمام النفطي بمنطقة الظهران، في الثالث من مارس عام ١٩٣٨.

وعندما نقول البئر رقم (٧) فإن هذا يكشف لنا عن أن هذا الحقل في الدمام، فشلت ٦ آبار فيه في البداية في تحقيق الهدف، وتنوعت أسباب الفشل بين إنتاجها للماء أكثر من النفط، وبين جفاف اثنتين منهم تماما، وبين ضعف انتاج واحدة، ولنا أن نتصور المشاعر البشرية للمهندسين والعمال وحتى للملك عبد العزيز آل سعود حينها، وكيف تأرجحت ما بين اليأس والرجاء.

وكما قد تتأخر الإنجازات الكبري ثم تنفجر النجاحات تباعا، ارتفع الإنتاج من البئر رقم ٧ في غضون يومين إلي ٣٦٩٠ برميل في اليوم، ثم ٣٧٣٢ برميل يوميا بحلول اليوم الخامس.

وبفخر وسعادة شديدة، وقف السيد (ويليام لينهان) محامي شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا ((سوكال)) الأمريكية، في حضرة الملك عبد العزيز آل سعود يزف إليه النبأ السعيد باكتشاف النفط في السعودية، ولفرحته الشديدة ، زار الملك عبد العزيز حقل الدمام واطلع بنفسه على الإنجاز الذي تحقق بعد طول انتظار.

بعد ذلك، سميت البئر رقم (٧) في حقل الدمام باسم (بئر الخير) في إشارة لكونها أول بئر تنتج كميات تجارية في السعودية، مافتح أبواب الخير على المملكة حتى يومنا هذا.


إنطلاقة النفط السعودي:


هكذا عثر السعوديين على نفطهم أخيرا، بعد ثلاثين عاما من اكتشافه في إيران، وتسعة سنوات من العثور عليه في العراق.

لا توجد أي مبالغة في التوصيف حينما نقول أن اكتشاف النفط في السعودية أدى إلى تغيير جذري في الجغرافيا الطبيعية والبشرية والسياسية للمملكة العربية السعودية والشرق الأوسط والعالم.

الملفت أنه وبرغم اكتشاف النفط في المملكة منذ مارس ١٩٣٨، فإن استغلاله بشكل مثمر قد تأخر لسنوات، فسريعا ومع ١ سبتمبر ١٩٣٩، اندلعت معارك الحرب العالمية الثانية، وظلت الحرب تؤثر سلبا على أنشطة إنتاج النفط في السعودية، وكذلك أنشطة التنقيب في أماكن جديدة، وإن استطاعت السعودية في ذلك الوقت تصدير أول شحنة نفطية في تاريخها على متن ناقلة نفطية بحرية في ١ مايو / أيار ١٩٣٩.

لكن مع نهاية الأربعينات، بدأ التصدير الحقيقي للنفط السعودي مع افتتاح مصفاة رأس تنورة التي تقع على ساحل الخليج، كما تم إنشاء ميناء بحري لتصدير النفط هناك بعد ربطها بخط أنابيب بترول بطول ٦٩ كم يربطها مع حقل الدمام النفطي. 

ومع تزايد الطلب العالمي على النفط بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت العائدات تتوالي على المملكة، خصوصا مع وصول طاقتها الانتاجية عام ١٩٤٩ إلي نصف مليون برميل يوميا، بفضل اكتشاف حقل الغوار ، جنوب الظهران وغرب الهفوف، إنه أحد أكبر حقول النفط في العالم. 

وبحلول عام ١٩٥١، اكتشفت شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) أول حقل بحري في الشرق الأوسط ، في رأس السفانية ، جنوب المنطقة المحايدة السابقة بين السعودية والكويت.


اتفاق كوينسي:

اللقاء التاريخي بين الرئيس روزفلت (يجلس يمينا) والملك عبد العزيز آل سعود، ونشاهد العقيد ويليام إدي، يقف على ركبته احتراما للملك، سيعين إدي بعد ذلك بدرجة وزير مختص بشؤون السعودية، ويظهر واقفا خلفه مباشرة الأدميرال ويليام هارينجتون ليهي، أحد أبطال البحرية الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، مات الرئيس روزفلت بعد شهرين من هذا اللقاء، FDR Presidential Library & Museum.
License: CC BY 2.0. 


مع قرب الحرب العالمية الثانية من الإنتهاء واتضاح أن الحلفاء قد حسموها لا محالة، وقبل وقت قليل من وفاة الرئيس الأمريكي وبالتحديد في مطلع عام ١٩٤٥،  وعلى متن البارجة الحربية الأمريكية "كوينسي" عند مدخل قناة السويس المصرية، كان اهم لقاء في تاريخ المملكة.

صعد الملك عبد العزيز آل سعود بخبرة السنين التي جعلت منه أحد أهم شخصيات القرن العشرين، ليلتقي بفرانكلين روزفلت، الرئيس الأمريكي الذي يريد أن ترث بلاده عرش الإمبراطورية البريطانية التي كانت شمسها في طريقها للغروب، ومن قبلها إمبراطورية الفرنسيين التي احتلها هتلر بسهولة في بداية الحرب.

على سطح كوينسي، تم الاتفاق بين روزفلت وعبد العزيز على الاتفاقية التي حملت اسم المدمرة التي التقي عليها الرجلان، إنها (اتفاقية كوينسي) التي أزاحت بها أمريكا بريطانيا عن بترول السعودية إلي الأبد.

وإذا جاز تلخيص اتفاقية كوينسي بكل أهميتها وابعادها الاقتصادية والسياسية والتاريخية في سطور، فإنها اتفاقية تعهدت بمقتضاها الولايات المتحدة الأمريكية بتوفير الحماية للسعودية في مقابل إعطاء أمريكا حق التنقيب عن البترول السعودي واستخراجه.

بالدبلوماسية إذن وصل الأمريكيين للشراكة الطويلة الأمد مع السعودية، بعكس ما حدث في إيران مثلا قبل اتفاقية كوينسي بأربعة أعوام، فخلال الحرب العالمية الثانية، غزت بريطانيا بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي إيران، ونفت رضا شاه، ووضعت ابنه رضا بهلوي، الذي كان أكثر ودية لمصالحها النفطية على العرش.


الاكتشاف:


ربما يكون من التسطيح أن ننظر إلي اكتشاف البترول في السعودية بنظرة اقتصادية فحسب، لقد كان نقلة حضارية وتاريخية هائلة، بل وأكثر من هذا لقد تركت في المكتبة العالمية عددا من الأعمال الأدبية الهامة.

لكن وبلا شك يظل كتاب "الاكتشاف : البحث عن النفط العربي DISCOVERY : The Search for Arabian Oil" للكاتب والمؤرخ ومؤلف الروايات الأمريكي الذائع الصيت (والاس ستغنر) والملقب بعميد الكتاب الغربيين، هو الكتاب الأهم في هذا الصدد.

الكتاب يلقي الضوء بشكل آسر على فترة قد لا تكون معروفة بالنسبة لكثيرين، لكنها مهمة للغاية في تاريخ العالم، تلك الفترة التي تم فيها اكتشاف النفط في السعودية، وبدايات ما يعرف حاليا باسم شركة (أرامكو) السعودية.

كتاب "الاكتشاف : البحث عن النفط العربي DISCOVERY : The Search for Arabian Oil" يروي كل ما حدث في السعودية حينها، تلك الدولة البعيدة والفقيرة للغاية منذ بداية المفاوضات مع الملك عبد العزيز آل سعود وطاقم مستشاريه القليل العدد. 

مجموعة من العمال السعوديين الأوائل في شركة أرامكو يحيطون بمهندس أمريكي، صورة من الشركة. 


كيف ساهم الجميع بداية من الملك عبد العزيز آل سعود ومن حوله في بلاطه الملكي، مرورا بالعلماء والميكانيكيين وصولا إلي المرشدين الصحراويين الذين عملوا جميعا في اكتشاف النفط في السعودية، ثم بناء شركة النفط (أرامكو)، ويحكي قصص عن الحيوانات البرية، النبلاء البريطانيين، والأمراء السعوديين.

الكتاب يعرض كذلك للنتائج الثقافية والتكنولوجية لقرار الملك عبد العزيز باختيار أمريكا كحليف للسعودية، وكيف اشترط على الشركة أن تقوم بجلب السكان السعوديين وتعليمهم وتثقيفهم بحيث يقوموا بالعمل بأنفسهم بمضي السنوات.

في النهاية، لقد غير النفط كل شيء في السعودية، حولها من الدولة التي لا عائدات لها إلا من الحجاج السنويين الذين يأتون في شهر واحد -وقتها كان موسم الحج سنوي ولبعد المسافة وصعوبة المواصلات كانت أعداد المعتمرين والحجاج قليلة للغاية-، حولتها إلي واحدة من أغني دول العالم.

أنشا السعوديون بنية تحتية قوية تنتشر فيها الآبار وخطوط الأنابيب والمصافي والموانئ والسفن والطائرات، وبأموال النفط بنوا دولة حديثة ومتطورة، وحتى يومنا هذا، يمثل النفط ما يقرب من ٩٠٪ من الميزانية السعودية.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-