بطول التاريخ وعرضه، تكثر الحكايات عن النساء اللواتي راودن الزعماء والقادة والحكام عن أنفسهم، سواء لتحقيق أهداف لهن، أو لمجرد التقرب من الرجل القوي الذي يحكم البلاد.
الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، كان هدفا لماتيلدا كريم الطبيبة اليهودية التي أرادت التخلص منه بأي ثمن، الصورة في الأسفل تجمع بينها وبين الرئيس الأمريكي جونسون في حفل عشاء. |
وفي تاريخنا نحن الأمة العربية، يبرز اسم (ماتيلدا كريم) الطبيبة اليهودية الكارهة لمصر ولجمال عبد الناصر حتى النخاع، والتي استغلت وبذكاء شديد عشق الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون لها، فطوعت سياسة أقوى دولة في العالم لصالح إسرائيل في الفترة التي سبقت وزامنت أحداث حرب الخامس من حزيران / يونيو ١٩٦٧.
اليوم نكشف كيف استطاعت تلك المرأة أن تضغط وبذكاء شديد على رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. وأن تطلب رأس جمال عبد الناصر كهديته التي يتقرب منها بها؟.
ماتيلدا كريم:
إذا بحثت عن هذا الاسم، لوجدت الكثير من الدعايا التي تمجده في مجال الطب، فهي إعلاميا المرأة التي حاربت الإيدز، أو الطبيبة البطلة التي كانت الرئيس المؤسس لمؤسسة (أمفار) الأمريكية لأبحاث الإيدز.
قليلون هم من سيشيرون لدورها الداعم لإسرائيل، عن كونها محرض على سفك الدماء وإشعال الحروب، عن وصفها للإرهاب بالأعمال البطولية، عن تعصبها الشنيع ضد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
يصفها الكاتب المصري الكبير عادل حمودة في مقال منشور له في صحيفة "البيان" الإماراتية في ١٧ أغسطس ٢٠٢٠ فيقول: ((أما ماتيلدا فهي ماتيلدا كريم.. عجينة الأنوثة التي طلبت رأس جمال عبدالناصر مهرا لها لتعطي كل ماعندها.. على طريقة سالومي التي رقصت عارية لزوج أمها الملك هيرود مقابل رأس يوحنا المعمدان)).
كانت بداية القصة في التاسع من يوليو عام ١٩٢٦، ولدت ماتيلدا، لأسرة مكونة من اب مسيحي كاثوليكي سويسري، وام يهودية ايطالية، تعيش في مقاطعة كومو الإيطالية.
وفي عمر الثانية والعشرين، وبالتحديد في العام ١٩٤٨، اعتنقت ماتيلدا كريم اليهودية، بل نستطيع القول أنها أصبحت من أكثر اليهود تعصبا، ومن أكثرهم صهيونية، ومن العاملين الرئيسيين على طرد الشعب الفلسطيني الكريم من أرضه بالقوة وبالعنف بل وبالإرهاب.
كان ذلك العام أيضًا هو عام زواجها الأول من (ديفيد دانون)، ذو الأصول البلغارية والذي كان يدرس أيضا في جنيف ليصبح طبيبا، لكنه عمل أساسا كقائدا عسكريا يهوديا، حيث التقته في جامعة جينيف التي تخرجت منها، وعلى ما يبدو كان تحول ماتيلدا إلى اليهودية نابعا من مشاعرها تجاه دانون.
لكن زواج ماتيلدا من ديفيد دانون يكشف لنا عن طبيعة شخصيتها بجلاء، فديفيد دانون كان إرهابيا وقاتلا بالمعني الحرفي للكلمة.
في أحضان الصهيونية:
ارتمت ماتيلدا في أحضان زوجها، ومعه، وربما قبله ارتمت في أحضان الصهيونية، حيث سافرت معه إلي فلسطين المحتلة حيث اعتنقت هناك اليهودية.
كان ديفيد دانون إرهابيا، شارك في عمليتين إرهابيتين نفذتها جمعية الآرجون الصهيونية الإرهابية المسلحة في فلسطين، والملفت هنا أن ماتيلدا ذاتها انضمت إلي عصابة الآرجون، وشاركت بنفسها في بعض عملياتها.
وزير الدولة البريطاني إدوارد غينيس (بارون موين الأول)، اغتيل في عملية شارك فيها زوج ماتيلدا كريم الأول، Imperial War Museum، public domain. |
ومن الثابت قطعا أن ديفيد دانون، زوج ماتيلدا كريم الأول، والسبب الرئيسي في اعتناقها اليهودية كدين، والصهيونية كفكر، قد اشترك في عملية اغتيال وزير الدولة البريطاني إدوارد غينيس (بارون موين الأول) في ٦ نوفمبر سنة ١٩٤٤ في العاصمة المصرية القاهرة.
كما شارك أيضا في عملية نسف فندق الملك داود، والذي ذهب ضحيته العشرات، ومنهم ضباط إنجليز، في محاولة للضغط الصهيوني بالإرهاب على البريطانيين في فلسطين.
ولم تكتفي ماتيلدا كريم بالاعتراف بقيام زوجها الأول بهذه العمليات، بل اعتبرتها "عمليات بطولية".. وهنا السؤال المهم، لماذا يتم السكوت على هذه البجاحة والتبجح، واعتبار الاغتيالات ونسف الفنادق وقتل الأبرياء اعمالا بطولية؟. ولماذا لا توصم ماتيلدا كريم بالإرهابية؟.. ام ان لفظ الإرهاب هو خاص بالمسلمين وفقط؟.
ومع اكتشاف أمر زوجها، تم تهريبه إلي سويسرا مجددا، وسافرت معه ماتيلدا هذه المرة أيضًا، حيث ومع حلول العام ١٩٥٣، كانت قد عادت للدراسة مجددا، محققة خطوة هامة في حياتها العملية بحصولها على درجة الدكتوراه من جامعة جنيف السويسرية.
حينها وبدوافع حلم أرض الميعاد التي تجمع الشتات اليهودي، سافرت ماتيلدا كريم إلي إسرائيل التي كانت قد قامت بالفعل حينها، حيث عملت في مشاريع البحوث الطبية الحيوية في معهد وايزمان للعلوم في رحوفوت واستمرت فيه حتى عام ١٩٥٩، كما انفصلت عن زوجها في تلك الفترة.
ثروة السيد آرثر:
في تلك الفترة، تعرفت ماتيلدا على زوجها الثاني آرثر كريم، وتزوجته عام ١٩٥٨، ومن ثم انتقلت للعيش في أمريكا، والعمل في كلية كورنيل الطبية في مدينة نيويورك عام ١٩٥٩، لكنها لم تتخلي أبدا عن ما اعتبرته دورها في خدمة إسرائيل، فقط هي بدلت موقعها لمكان ستسير الأقدار لتجعلها جزءا أساسيا في حدث تاريخي كان على بعد ثمانية سنوات من تلك اللحظة.
كان زواج ماتيلدا من آرثر كريم بمثابة تغيير كامل في حياتها، من حيث طبيعة حياة الزوج الجديد.
فبينما كان زوجها الأول رجل يقوم بأعمال على الأرض، وينفذ هنا وهناك، كان آرثر كريم من طبقة رجال الأعمال، الذين يعيشون حياة مرفهة، ويعمل في مجال صناعة الإعلانات، التي تدر عليه مبالغ ضخمة.
لكن الشئ المشترك بين الرجلان، أنهما كانا يهود، وكلاهما كان متعصب لإسرائيل، لذا فإن ما حدث أن انتقلت ماتيلدا إلي نوع آخر من الدعم لإسرائيل، أهم كثيرا مما كانت تقوم به في السابق، إذ نتحدث هنا عن التواجد وسط طبقة رجال الأعمال والمتنفذين والسياسيين في أمريكا.
الجسد ثمنا:
في ذلك العالم الجديد الذي دخلته ماتيلدا كريم، سنحت لها ولزوجها الذي كان أيضًا من كبار جامعي التبرعات لمصلحة الحزب الديمقراطي الفرصة للالتقاء بالرئيس ليندون جونسون، ومن قبله بسلفه الرئيس جون كينيدي الذي سريعا ما اغتيل.
ماتيلدا كريم تتراقص في أحضان الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون. |
وفي تلك الليلة التي التقي فيها السيد آرثر وزوجته ماتيلدا كريم، يبدو أن مزيج الجمال والذكاء في ماتيلدا قد لعب دوره بسرعة وبضراوة في سحر لب ليندون جونسون المعروف عنه أصلا أنه كان زير نساء.
الإعجاب الفوري، ربما تكون هي الكلمة المفتاح لوصف ما حدث، ودفع جونسون للسهر ليلتها مع الرجل وزوجته حتى بعدما تجاوزت الساعة السادسة صباحا.
لطالما رفضت ماتيلدا كريم محاولات الرئيس جونسون إغوائها بالمجوهرات، كان الثمن الذي سترضي به هو سيناء، هو رأس جمال عبد الناصر، رأسه حرفيا أو حتى بالمعني المجازي، بأن يهزم في حرب تطيح به من على كرسي الحكم في القاهرة، كان ناصر هو عدو ماتيلدا كريم الأول.
كثيرات هن من قدمن أجسادهن لكي يحصلن على المنافع، وتشهد مزرعة الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون على ذلك لماتيلدا كريم، التي هام بها الرئيس الأمريكي عشقا.
شاهد آخر على ما كان يحدث، وهي سكرتيرة الرئيس جونسون التي شهدت زيارات ماتيلدا كريم للبيت الأبيض لتلتقي الرئيس جونسون لا في المكتب الرئاسي، ولكن في غرفة نومه!!!.
حرب الخامس من يونيو:
تكشف الوثائق الأمريكية من بين ما تميط عنه اللثام، مدى الدور الذي لعبته ماتيلدا كريم في تحريض الرئيس جونسون على دعم إسرائيل لشن حرب ضد مصر، بهدف كسر الرئيس جمال عبد الناصر.
ففي أحد خطابات الرئيس عبد الناصر، والتي تلت مضايقات أمريكية لمصر تمثلت في منع تصدير شحنات القمح الأمريكي إلي مصر، قال عبد الناصر أن سياسة راعي البقر الأمريكي "يقصد جونسون".. لن تفلح مع مصر.
حينها التقطت ماتيلدا كريم هذه الكلمة، وبدأت في التحريض، وقالت نصا: (إذا كان ناصر يقول أنك راعي بقر، فأجعل منه هندي أحمر).. تقصد حرب الإبادة التي شنت ضد سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر.
كل هذا قد يتضائل أمام تواجد ماتيلدا كريم الدائم بصحبة الرئيس جونسون خلال الأيام القليلة السابقة لشن إسرائيل هجومها صباح الخامس من يونيو ١٩٦٧.
ففي الفترة من ٢٧ مايو : ٣ يونيو، كانت ماتيلدا كريم وهي التي لا تمتلك أي صفة رسمية، لصيقة بجونسون لدرجة أنه كان يطلعها على البرقيات التي كانت تصله عن الوضع القابل للإنفجار في أي لحظة في الشرق الأوسط.
أما ما قد لا يصدق أنه ومنذ ليلة ٣ يونيو ١٩٦٧ ، فقد باتت ماتيلدا كريم في الغرفة رقم ٣٠٣ في البيت الأبيض مقر الرئاسة الأمريكية.
وعندما تم إيقاظ الرئيس جونسون من نومه في فجر الخامس من يونيو ١٩٦٧ لإبلاغه بأن إسرائيل قد بدأت الحرب في الشرق الأوسط، سارع للتوجه بملابس النوم إلي غرفة ماتيلدا كريم ليخبرها أن الحرب قد بدأت.
موقف الزوج آرثر كريم:
على ما يبدو واضحا بدون كثير من الذكاء أن (آرثر كريم) زوج ماتيلدا، كان مرحبا بشدة بعلاقة زوجته مع الرئيس جونسون.
فطالما هناك مصلحة لإسرائيل من وراء تلك العلاقة، فليكن ما يكون بين الرئيس الأمريكي وبين الطبيبة اليهودية الحسناء.
نجد مثلا أن آرثر كريم كان يستغل حظوة زوجته لدي الرئيس الأمريكي، فيتصل به هاتفيا في صباح ٥ يونيو ١٩٦٧ مع قدوم الأخبار من الشرق الأوسط بأن الحرب قد بدأت، ويطلب منه الشحن الفوري لبعض شحنات الأسلحة الجاهزة لإرسالها إلي إسرائيل، فيقوم الرئيس جونسون بإصدار أوامره في ذات اللحظة بشحن الأسلحة.
السيطرة على كل شيء:
لقد وصل الحد الذي تسيطر به ماتيلدا كريم على الرئيس الأمريكي جونسون ، أنها قد اتصلت به هاتفيا في أعقاب تصريحات أدلى بها روبرت ماكلوسكي عن موقف الولايات المتحدة من الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، قال فيها: (لقد حاولنا أن نتصرف بشكل متوازن في هذه الظروف، إن موقفنا هو الحياد في الفكر والكلمة والفعل).
لم تتقبل ماتيلدا كريم حتى أن يقال تصريحا دبلوماسيا، معاكس لكل الحقائق على الأرض والدعم الأمريكي الواضح لإسرائيل في معارك يونيو ١٩٦٧.
طلبت ماتيلدا من جونسون أن يتم سحب هذا التصريح، وترسل له هي وزوجها "آرثر كريم" تصريحا يطلبا من رئيس أكبر دولة في العالم أن يقوله ومفاده أن الولايات المتحدة لن تستأنف العلاقات مع الرئيس المصري ناصر.
ونشير مجددا لصفقة الأسلحة التي طلب آرثر كريم من الرئيس جونسون الإفراج عنها صباح ٥ يونيو (كانت قيمتها ٧٠ مليون دولار أمريكي وهو مبلغ ضخم في هذه الفترة) لنجد أن الصفقة كانت معلقة بسبب سياسات تصدير الأسلحة الأمريكية التي توقف فورا تصدير الأسلحة للدول التي تدخل في توترات قد تؤدي لاشتعال حرب.
اتصلت ماتيلدا كريم بالرئيس جونسون هي أيضا بشأن هذه الأسلحة، جعل الرئيس العاشق يصدر أوامره أنه واختصارا للوقت، وبدلا من خروج الأسلحة من أمريكا إلي إسرائيل، أن يتم فتح مخازن الأسطول الأمريكي السادس في إيطاليا، وتشحن منها الأسلحة المطلوبة بنفس النوعيات والأعداد المتفق عليها في الصفقة.
ويبقي أبرز ما حققه اللوبي الصهيوني في أمريكا بقيادة ماتيلدا كريم خلال حرب يونيو ١٩٦٧ هو التغطية على حادثة الهجوم الإسرائيلي على سفينة التجسس الأمريكية ليبرتي، والذي كان هجوما متعمدا لاغراقها شنته طائرات سلاح الطيران الإسرائيلي ولنشات طوربيد تابعة للبحرية الإسرائيلية في هجوم غادر ضد الحليف الذي وفر لإسرائيل كل شيء من أجل أن تنتصر.
هيكل يتحدث:
في برنامجه (مع هيكل) الذي اذيع لسنوات متعاقبة على شاشة قناة الجزيرة، تناول الكاتب المصري العملاق محمد حسنين هيكل والذي كان وثيق الصلة بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، دور ماتيلدا كريم في أحداث هزيمة عام ١٩٦٧ بشكل تفصيلي، فأفرد لها حلقة كاملة، كما تحدث عنها في مقتطفات من عدة حلقات أخرى، وقد استعنا في تقريرنا هذا بالكثير من الوثائق التي عرضها الأستاذ محمد حسنين هيكل في هذه الحلقات.
وصف هيكل قصة ماتيلدا كريم ، كأنها قصة من قصص (جيمس بوند)، ففيها الغرام، وفيها الجاسوسية، وفيها السر، وفيها ما لا يمكن تصوره في مسار أزمة من النوع الذي حدث في يونيو ١٩٦٧.
إنها (ماتيلدا كريم) التي جعلت الرئيس الأمريكي ليندون جونسون يستمع إليها أكثر مما يستمع لأي شخص آخر، والتي ذكرت دورها تقريبا كل الكتب الأمريكية والإسرائيلية التي تناولت حرب يونيو ١٩٦٧.
التلميع الإعلامي:
إعلاميا، صنعت وسائل الإعلام الغربية من ماتيلدا كريم أيقونة طبية وإنسانية، فهي التي عملت على أبحاث استخدام بروتين الإنترفيرون الطبيعي لعلاج السرطان، ثم انتقلت لتضع جهدها الأكبر في مجال محاربة فيروس نقص المناعة البشرية "الإيدز".
في العام ٢٠٠٠، منحت ماتيلدا كريم وسام الحرية الرئاسي، وهو وسام مدني أمريكي من الطبقة الأولي، يُمنح للأفراد الذين قدموا مساهمة جديرة بالتقدير بشكل خاص للأمن أو المصالح الوطنية للولايات المتحدة أو السلام العالمي أو الأنشطة الثقافية أو غيرها من المساعي العامة أو الخاصة المهمة.
في الخامس عشر من يناير عام ٢٠١٨، توفيت ماتيلدا كريم عن عمر ٩١ عاما بعد حياة حافلة وهبتها للكيان الصهيوني.