تزامنا مع الانسحاب الأمريكي المشين من أفغانستان، وإنهيار الجيش الأفغاني بسرعة خاطفة أمام مسلحي طالبان، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية العريقة، الجزء الأول من مقتطفاتها من كتاب "أوراق أفغانستان : التاريخ السري للحرب".
غلاف كتاب أوراق أفغانستان : التاريخ السري للحرب |
الكتاب بقلم "كريج ويتلوك" مراسل الصحيفة، وتجدون تعريف به في نهاية هذا الموضوع. كما يمكنك قراءة الجزء الثاني من الكتاب وعرضنا له من هنا.
الانتحاري:
وقت متأخر من صباح يوم ٢٧ فبراير ٢٠٠٧، يصل انتحاري في سيارة تويوتا كورولا، إلي قاعدة باغرام الجوية، إنها نفس القاعدة والتي في موقف هزلي.. القوات الأمريكية تغادر قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان دون اخبار القوات الأفغانية وتترك اللصوص ينهبونها ، مطلع يوليو الماضي.
استطاع الانتحاري أن يناور، ويتجاوز نقطة التفتيش الأفغانية الأولى قبل القاعدة، وواصل سيره لمسافة ربع ميل في طريقه نحو البوابة الرئيسية لقاعدة باغرام.
عند هذه النقطة، كان الانتحاري قد وصل إلي نقطة تفتيش ثانية، لكنها وهذه المرة كان يشرف عليها جنودا أمريكيين.
وسط برك الطين التي خلفتها الأمطار علي الطريق، واختلاط بين مشاه علي أقدامهم، وحركة لمرور السيارات عند نقطة التفتيش، حينها ضغط الانتحاري زر تفجير سترته المليئة بالمتفجرات.
أسفر الانفجار عن مقتل ٢٠ عاملا أفغانيا، كانوا قد جاءوا يومها إلي القاعدة بحثًا عن عمل، كما أودى الانفجار بحياة اثنين من الجنود الأمريكيين وجندي من كوريا الجنوبية، إحدي الدول المشاركة بالتحالف العسكري الدولي الذي كونته أمريكا لغزو أفغانستان عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١.
كان هؤلاء هم الجندي في الجيش، دانيال زيزومبو، ٢٧ عاما، من شيكاغو.
جيرالدين ماركيز ، موظفة مدنية أمريكية متعاقدة لصالح شركة لوكهييد مارتن Lockheed Martin عملاق صناعة الأسلحة المتطورة، والتي كانت احتفلت للتو بعيد ميلادها الحادي والثلاثين.
أما الثالث فهو الرقيب/ يون جانغ هو، إنه أول جندي كوري جنوبي يموت في نزاع خارج كوريا منذ حرب فيتنام.
ديك تشيني:
لم يصب ذلك الانفجار ضيفا من كبار الشخصيات كان في زيارة حينها لقاعدة باغرام الجوية، إنه بالتحديد "ديك تشيني"، نائب الرئيس الأمريكي حينها جورج دابيلو بوش. في ذلك اليوم كان تشيني يحاول البقاء بعيدا عن الأنظار.
ديك تشيني يخطب في عدد من أفراد القوات الجوية الأمريكية، The U.S. National Archives, No known copyright restrictions |
كان تشيني قد جاء في اليوم السابق للأنفجار، متسللا في رحلة غير معلنة إلى المنطقة التي تشهد الحرب بين التحالف الدولي والقوات الأفغانية ضد طالبان.
جاء تشيني من العاصمة الباكستانية إسلام أباد علي متن طائرة سلاح الجو-٢ Air Force Two، إنها طائرة جهزها سلاح الجو الأمريكي خصيصا لتنقلات نائب رئيس أقوى دولة في العالم، وتحظي بإجراءات حماية مشددة، وعلي متنها الكثير والعديد من أنظمة الأمان العالية الدقة والتطور.
مهمة تشيني كانت تقتصر علي قضاء بضع ساعات فقط في أفغانستان لمقابلة الرئيس حامد كرزاي خلالها. لكن سوء الأحوال الجوية منعه من الوصول إلى العاصمة كابل، فأمضي ليلته في باغرام التي تبعد ٣٠ ميلا عن العاصمة.
كانت باغرام ينظر إليها كأحد أكثر المواقع الأمريكية تحصينا في أفغانستان، إن لم تكن أكثرها علي الأطلاق مع ٩ آلاف فرد بداخلها.
صادق وكاذب:
في غضون ساعات من التفجير، اتصلت طالبان بالصحفيين لإعلان المسؤولية، والقول إن تشيني كان هو الهدف. علي الجهة الأخرى سخر المسؤولون العسكريون الأمريكيون من ذلك، واتهموا طالبان بنشر الأكاذيب.
من المؤكد أن أحد الطرفين كان صادقا في روايته، بينما نسج الآخر رواية كاذبة.
يومها، قال الأمريكيين إن نائب الرئيس كان على بعد ميل واحد في الطرف الآخر من القاعدة ولم يكن في خطر أبدًا من ذلك التفجير.
لو سلمنا بالرواية الأمريكية، فإنه في صباح السابع والعشرين من فبراير ٢٠٠٧ كانت طالبان قد كشفت وجود ديك تشيني في باكستان، ووصلت سيارتها المفخخة لنحو كيلو ونصف منه، ورغم فشل العملية في إغتياله، إلا أنها كانت إثبات قاطع أن أي أمريكي مهما كان اسمه أو منصبه سيصل أفغانستان سيكون في خطر الموت، الموت قتلا.
لكن الأمريكيين أصروا أن الهجوم كان محض صدفة، وأن طالبان لم يكن بمقدوها التخطيط والإعداد وشن هجوم ضد ديك تشيني في مهلة زمنية قصيرة فصلت بين وصوله باغرام ووقوع الهجوم، خصوصا انه جاء باغرام صدفة نتيجة تغيير خطة سفره في اللحظات الأخيرة.
قال الكولونيل بالجيش الأمريكي توم كولينز، والذي كان يشغل وقتها منصب المتحدث باسم القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي، قال للصحفيين "إن مزاعم طالبان بأنهم كانوا يلاحقون نائب الرئيس كانت سخيفة".
الكاذب يظهر:
لكن ووفقا للكتاب، فإن الكاذب الذي أخفي الحقيقة، كانوا المسؤولين العسكريين الأمريكيين... ليست تلك مفاجأة كبيرة بالنسبة لمن يقرأ كتاب "أوراق أفغانستان : التاريخ السري للحرب".
فالكتاب يعج بتفاصيل تشرح كيف ضلل الرؤساء الجمهور الأمريكي بشأن الحرب في أفغانستان لما يقرب من عقدين من الزمن.
في مقابلة شفوية أجراها الكاتب كريج ويتلوك، مع النقيب شون دالريمبل، والذي كان وقتها يقود سرية ضمن تشكيل الفرقة ٨٢ المحمولة جوا، وهو نفسه الذي كان مسؤولا عن الأمن في قاعدة باغرام حينها، وكذلك شارك في ذلك اليوم مع أفراد الخدمة السرية الأمريكية في التخطيط لتحركات تشيني، أكد النقيب دالريمبل أن خبر وجود تشيني في القاعدة كان قد تسرب بالفعل.
النقيب الأمريكي أضاف أن الانتحاري الذي أرسلته طالبان، رأى قافلة من السيارات تخرج من البوابة الأمامية، وفجر نفسه لاعتقاده الخاطيء حينها أن ديك تشيني كان أحد ركاب تلك السيارات.
رغم ذلك الخطأ، فإن الانفجار لم يقع بعيدا عن نائب الرئيس الأمريكي، إذ كان من المفترض أن يغادر نائب الرئيس إلى كابول في قافلة مختلفة بعد حوالي ٣٠ دقيقة، أي أن نصف ساعة فقط هي من فصلت طالبان عن دخول التاريخ باغتيال نائب الرئيس ديك تشيني.
يضيف النقيب شون دالريمبل شارحا ما حدث في تلك الساعات الحاسمة: "لقد كان أفراد طالبان يعرفون أن ديك تشيني عندهم، فلقد انتشر الخبر في جميع الأرجاء، بغض النظر عن مقدار المحاولات التي تمت لإخفاءه، وما حدث أنهم شاهدوا قافلة من السيارات تخرج من البوابة، وكان بها سيارة رياضية مصفحة متعددة الأغراض، واعتقدوا أنه هو نائب الرئيس ديك تشيني... لقد فتح ذلك الموقف الخطير الكثير من الأعين لتري حقيقة أن باغرام لم تكن مكانًا آمنًا، وأن هناك بعض من يعملون بالداخل لديهم إرتباطات مباشرة مع حركة طالبان".
عام ساخن:
كان العام ٢٠٠٧ ساخنا في أفغانستان، فتلك الحادثة بمسماها الحقيقي"محاولة اغتيال نائب الرئيس الأمريكي"، كانت بمثابة تصعيد للحرب علي جبهتين اثنتين.
نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني وزوجته يلقيان التحية قبل أن يستقلا طائرة القوات الجوية رقم ٢، The U.S. National Archives, No known copyright restrictions |
فمن خلال استهداف نائب الرئيس في القاعدة شديدة التحصين في باغرام، أظهرت طالبان قدرتها علي شن هجمات عالية المستوي، توقع خسائر جماعية في صفوف قوات التحالف، وفي أماكن بعيدة عن أماكن سيطرتهم في معاقلهم وقتها في جنوب وشرق أفغانستان.
ومن خلال الكذب بشأن مدى اقتراب المتمردين من القدرة علي إيذاء نائب الرئيس تشيني، غرق الجيش الأمريكي بشكل أعمق في أسلوب خداع الجمهور حول العديد من جوانب الحرب. بداية من أحداثها المنفصلة، وصولا إلي صورتها الكبيرة.
فالأمور التي بدأت في صورة قيام الجيش الأمريكي بالإفصاح الانتقائي عن المعلومات التي يعتقد أنها تخدم مصالحه فقط بعد غزو أفغانستان عام ٢٠٠١، تحولت بشكل تدريجي إلي تغيير وتشويه متعمد للحقيقة، وفي النهاية أصبح حديث أقوي جيش في العالم هو عبارة عن "افتراءات كاملة".
يكشف الكتاب الذي سينشر في الحادي والثلاثين من أغسطس الجاري، الكثير مما حدث، والأكاذيب التي قيلت، عبر لقاءات الكاتب مع أكثر من ١٠٠٠ شخص لعبوا أدوارًا مباشرة في الحرب، والتي استخدمها في وضع تأريخ للحرب بصورة السرد.
بالإضافة إلى الشهادات التي أدلي بها المشاركين في الحرب، استخدم الكاتب آلاف الصفحات من الوثائق التي تم الحصول عليها بموجب قانون حرية المعلومات الأمريكي.
يا عزيزي كلهم كاذبون:
يكشف الكتاب أيضا أن سلسلة الأكاذيب الأمريكية استمرت علي مدار إدارات الرؤساء جورج دابيلو بوش، باراك أوباما، وحتى دونالد ترامب، وأنهم جميعا أشتركوا في إخفاء الحقيقة عن الشعب الأمريكي، والعالم بأسره.
كانت الحقيقة تقول أن أعظم جيوش العالم ومعه من الحلفاء الكثيرون، يخسرون ببطء حربا حينما افتتحها كان الأمريكيون يدعمونها بأغلبية ساحقة كانتقام لهجمات الحادي عشر من سبتمبر.
بدلاً من قول الحقيقة، اختار القادة السياسيون والعسكريون دفن أخطائهم، وتركوا الحرب تنجرف، ويذهب الكاتب أن ذروة الأخطاء الأمريكية في حرب أفغانستان كانت قرار الرئيس بايدن هذا العام بالانسحاب.
لقد صدر ذلك القرار في وقت أصبحت فيه طالبان أقوى من أي وقت مضى منذ الغزو عام ٢٠٠١.
إدارة بوش:
بالنسبة لإدارة بوش وحلفائها في الناتو وعدد من الدول الأخري ومن معهم من القوات الأفغانية الحكومية، كانت الأشهر التي سبقت زيارة ديك تشيني لأفغانستان في فبراير عام ٢٠٠٧ فترة مروعة.
ففي العام السابق مباشرة ٢٠٠٦، كان عدد عمليات طالبان الانتحارية قد تضاعف خمس مرات تقريباً. كما تضاعف عدد العبوات الناسفة المزروعة على جوانب الطرق مقارنة بالعام السابق، وكانت قدرة مقاتلي طالبان علي توفير ملاذات عابرة للحدود في باكستان تغذي من تلك المشكلة.
حينها كانت تلك الحقائق تقض مضاجع الأمريكيين، وقبل وصوله إلى باغرام، التقى تشيني في إسلام أباد مع الرئيس الباكستاني وقتها برويز مشرف.
في اللقاء بين الرجلين، أخذ ديك تشيني يحث مشرف علي إتخاذ إجراءات صارمة ضد عبور مسلحي طالبان لحدود بلاده والاقامة فيها، لكن مشرف لم يعد بفعل أي شيء، فالرجل الباكستاني القوي نفي أن يكون لديه أي قدرة علي تقديم أي مساعدة، قائلاً إن حكومته قد "فعلت أقصى ما يمكنها فعله بالفعل".
حيلة:
بالرغم من تصريحاتهم العلنية التي نفت أي قدرة لطالبان علي كشف وجود ديك تشيني فضلا عن تنفيذ هجوم ضده، فإن المسؤولين العسكريين الأمريكيين كانوا قلقين للغاية من أن طالبان قد تستهدف تشيني خلال مسيرته القصيرة انطلاقا من باغرام وصولا إلي كابل، قلقين لدرجة أنهم نفذوا حيلة لخداعهم.
انبنت الخطة علي مغادرة تشيني لقاعدة باغرام من بوابة نادرا ما تستخدم.
وبالنسبة لمرافقين ديك تشيني من الدبلوماسيين والإداريين وطاقم الحراسة، فتقرر أن يتم استخدامهم "كشراك خداعية"، إذ رتب لهم أن يستقلوا سيارات دفع رباعي عادة ما تكون مخصصة فقط لكبار المسؤولين، وبالتالي يتم تضليل طالبان التي لن تستطيع معرفة سيارة نائب الرئيس بالتحديد، وربما ذلك ما حدث فعلا وقام الانتحاري بتفجير نفسه عندما رأي أحد تلك المواكب تتحرك.
أما نائب الرئيس ديك تشيني، فلقد كان بصحبة كابتن دالريمبل، في مركبة عسكرية ثقيلة مزودة بمدفع رشاش. يتذكر دالريمبل ما حدث بقوله: "لم تكن تتوقع منه أن يركب مركبة مزودة بمدفع".
غيروا كل شيء:
تم إلغاء هذه الخطة بعد الهجوم الانتحاري، اعتبر القادة العسكريون أن السفر براً يشكل خطورة كبيرة على حياة تشيني، لذا تقرر انتظار أن يصبح الطقس صافياً وصالحا للطيران، ثم يتوجه نائب الرئيس جوا بدلاً من البر إلى كابول للقاء كرزاي.
التقى نائب الرئيس ديك تشيني والرئيس الأفغاني حامد كرزاي في كابل بعد ساعات من تفجير انتحاري خارج قاعدة باغرام الجوية أسفر عن مقتل ٢٢ شخصًا.
وأخيرًا شعر الموجودين في باغرام ببعض الراحة، فلقد غادر تشيني أفغانستان بعد ظهر ذلك اليوم على متن طائرة عسكرية من طراز C-17 دون وقوع مزيد من الحوادث.
مستنقع في العراق وآخر في أفغانستان:
علي خطي نظيره السوفيتي منذ عقود، كان الجيش الامريكي يكافح من أجل منع ظهور طالبان مجددا دون فائدة، كان أداءه أسوأ كثيرا من الأداء في العراق، برغم أن الحرب في بلاد الرافدين كانت أكبر كثيرا من نظيرتها في أفغانستان.
فبينما وجد ١٥٠ ألف جندي أمريكي أنفسهم في المستنقع العراقي -كان عدد القوات في العراق يصل لحوالى ستة أضعاف العدد الذي تم نشره في أفغانستان-، وبالنظر للكوارث العسكرية التي حاقت بالجيش الأمريكي في العراق، أرادت إدارة بوش بشدة أن تتجنب التصور بأنها تخسر في أفغانستان أيضًا.
نتيجة لذلك، فمع بداية العام الجديد (٢٠٠٧)، أعرب القادة العسكريون الأمريكيون في أفغانستان عن مستويات جديدة من التفاؤل علنًا، وبالنظر للأوضاع علي الأرض، كانت تصريحاتهم غير مبررة ولا أساس لها، لدرجة أن تصريحاتهم كانت واقعيا بمثابة حملة تضليل.
علي سبيل المثال، قال الميجور جنرال روبرت دوربين، القائد الأمريكي المسؤول عن تدريب قوات الأمن الأفغانية، للصحفيين في ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧: "نحن منتصرون"، وأضاف أن الجيش والشرطة الأفغانية "يواصلان إحراز تقدم كبير كل يوم".
اتضح مدى كذب وخداع الميجور جنرال الأمريكي هذه الأيام حينما انهار الجيش والشرطة في أفغانستان أمام طالبان بصورة مذهلة السرعة.
أما الميجور جنرال بنجامين فريكلي، وكان وقتها قائد الفرقة الجبلية العاشرة، فقد كان بجعبته تقييماً أكثر إشراقًا بعد بضعة أسابيع. وقال خلال مؤتمر صحفي يوم ٢٧ يناير: "نحن نفوز". كما أعلن كذلك أن القوات الأمريكية والأفغانية حققت "تقدمًا كبيرًا" و "هزمت طالبان والإرهابيين الذين يعارضون هذه الأمة في كل منعطف".
كانت تصريحات القادة العسكريين الأمريكيين تنساب دون ان تضع نصب عينيها الحقيقة التي تقول أن التفجيرات تصاعدت في أفغانستان طوال العام السابق (٢٠٠٦).
أما بالنسبة لمسلحي طالبان، قال الميجور فريكلي إن المتمردين "لم يحققوا أيًا من أهدافهم". وعندما سأله أحد الصحفيين عن الزيادة في هجمات طالبان، فوصفها بأنها علامة علي "يأس طالبان".
دورية مشتركة بين جنود أمريكيين وأفغان في قرية ياوز في محافظة وردك، Army.mil, Attribution 2.0 Generic (CC BY 2.0), Flickr |
بعد ثلاثة أيام علي هذه التصريحات، خرج كارل إيكنبيري، وهو جنرال من فئة ثلاثة نجوم في الجيش الأمريكي -عدد محدود للغاية من جنرالات الجيش الأمريكي يحملون هذا العدد من النجوم، ويكونون من أصحاب المناصب القيادية-، ليدلي بتصريحات خلال زيارته العاصمة الألمانية برلين، بهدف زيادة الدعم الشعبي الأوروبي لقوات الناتو، قال فيها: (الحلفاء في أفغانستان في وضع جيد لتحقيق النجاح العسكري، أما طالبان فإنها تتصرف بشكل مذعور).
وأضاف الجنرال الأمريكي رفيع المستوي أن تقييم أرض المعركة هو أن طالبان تنظر إلي الوقت، وأن الوقت يعمل ضدهم وليس لصالحهم".
لكن جوقة الكلام السعيد من الجنرالات الأمريكيين، كان هناك من يتحداه، إنها سلسلة طويلة من تقييمات أجهزة المخابرات التي أجمعت علي أن طالبان تكتسب المزيد والمزيد من القوة.
التحدي:
كان عام ٢٠٠٦ مفصليا، فبعد خمس سنوات من الغزو، بدأت طالبان تقرع الطبول في كل بيت.
شهر فبراير من ذلك العام، برقية دبلوماسية سرية تصل إلي المسؤولين في واشنطن من رونالد نيومان، سفير الولايات المتحدة في أفغانستان، يخبرهم فيها أن زعيما من طالبان حذره بثقة شديدة في نفسه من المستقبل، وأن طالبان لديها كل الوقت كي تتجهز لمعركة جديدة ستربحها.
يكشف الكتاب عن لقاء مع أحد المسؤولين في إدارة الرئيس بوش الأبن حينها، وصف هذا المسئول الوضع حينها بأنه كان سرا وفي داخل أروقة قيادة القوات الأمريكية، زاد قلق الجميع بسبب التدفق في الهجمات الانتحارية، والمفخخات علي جانبي الطرق -وهي تكتيكات مستوردة من العراق التي كانت مشتعلة حينها أيضا-.
يقول ذلك المسؤول أن إدارة بوش كانت تخشي من أن يتكرر "هجوم تيت" Tet Offensive لكن هذه المرة في قندهار.
هجوم تيت هو أحد أكثر الصفحات الجديرة بالدراسة في التاريخ العسكري الأمريكي كله.
فمع بدأ "تيت" وهو اسم العام الجديد في التقويم الفيتنامي، والذي وافق فبراير من العام ١٩٦٨، شن الجيش الشمالي الفيتنامي، وحلفاؤه من قوات "الفيتكونغ" هجوما شاملا ضد الجيش الجنوبي الفيتنامي والقوات الأمريكية التي تدعمه، رغم أن موقفه العسكري والميداني كان أضعف بكل المقاييس.
رغم معرفتهم بضعفهم، فإن شن الفيتناميين الشماليين هجوما كبيرا استخدموا فيه كل قوتهم تقريبا، أدي للشك في تقارير المخابرات الأمريكية عن مدى قوتهم وسليحهم، والتي كانت صحيحة بالفعل لكنهم كسروا بعض قواعد العسكرية للتشكيك فيها، كما حرصوا علي التركيز علي قتل جنود وضباط أمريكيين، كانوا مدركين أن عدد الجثث التي تعود في صناديق لأمريكا تخلق أزمة رأي عام هناك.
استخدم الفيتناميين الشماليين "الهجوم الشامل لعكس اتجاة الانخفاض في الموقف العسكري"، واختاروا الهزيمة العسكرية الدامية مقابل انتصار سياسي ونفسي ومخابراتي... إنه أسلوب عسكري معروف واستخدمه الألمان كذلك في الحرب العالمية الثانية مع اقتراب الحلفاء من الأراضي الألمانية.
جنود أمريكيين في حرب فيتنام خلال صد هجوم تيت، Attribution 2.0 Generic (CC BY 2.0), Flickr |
فعندما يشن الهجوم في الوقت الذي يفترض انه من غير من الممكن اطلاقه نظرا لضعف إمكانيات العدو يصبح الهجوم الشامل سلاحا فعال... وبالفعل قوض الفيتناميين الدعم الشعبي الأمريكي للحرب.
ويضيف المسؤول السابق في إدارة الرئيس بوش قائلا: ((جاءت نقطة التحول في نهاية عام ٢٠٠٥، بداية عام ٢٠٠٦، لقد أستيقظنا أخيرا علي حقيقة وجود تمرد من طالبان يمكنه أن يجعلنا نفشل بالفعل)).
لقد حدث ذلك التحول بعدما ظن الأمريكيين أن الأمور في طريقها للحسم لمصلحتهم، لقد أرسلوا سفيرا لهم إلي أفغانستان في صيف العام ٢٠٠٥ (وصل رونالد نيومان إلي أفغانستان في يوليو ٢٠٠٥)، كان نيومان يعرف أفغانستان جيدا، فهو نجل سفير أمريكي سابق هناك، وقد أمضى صيفًا لطيفًا هناك عندما كان شابًا صغيرا في عام ١٩٦٧، يسافر عبر البلاد، ويخيم ويركب الخيل وحيوان الياك، خلال فترة وقت السلام حينما كانت أفغانستان دولة ملكية حينها.
لكن نيومان عندما عاد بعد ٣٨ عامًا، كانت أفغانستان في حالة حرب مستمرة لمدة ربع قرن، وكان تقييمه للموقف الذي أرسله لرؤسائه في واشنطن بمجرد وصوله هو أن العنف علي وشك أن يتصاعد بشكل كبير.
كتاب "أوراق أفغانستان : التاريخ السري للحرب"، عرض ما قاله السفير السابق في أفغانستان عن تلك الفترة في مقابلة أجريت معه لأخذ شهادته جاء فيها: "بحلول خريف عام ٢٠٠٥، كنت قد أبلغت، بالاشتراك مع الجنرال إيكنبيري، أننا سنواجه تمردًا متزايدًا بشكل كبير في العام المقبل، يعني في العام ٢٠٠٦، وأنه سيصبح أكثر دموية، وأسوأ بكثير من الحاصل هذا العام".
التضارب:
في البداية، وجد العديد من المسؤولين الأمريكيين الجالسين في مكاتبهم الوثيرة في واشنطن بعيدا عن أرض الحدث، وجدوا أنه من الصعب تصديق أن طالبان يمكنها أن تشكل خطرًا استراتيجيًا.
لكن لا يمكن ان تلقي باللوم علي هؤلاء فقط، فبعض القادة الميدانيين الذين يقودون قوات أقوى جيوش العالم علي الارض قللوا من شان طالبان، فأفضل ما تستطيع فعله هو السيطرة على بعض الجيوب الريفية الصغيرة والمبعثرة، لكنها لا تستطيع أن ترفع رأسها وتشكل أي تهديد للحكومة في كابل.
في شهادته في التاريخ الشفوي للجيش، والتي نقلها الكتاب، يقول العميد آنذاك، والذي شغل رتبة الجنرال فيما بعد برنارد تشامبوكس، وكان في ذلك الوقت نائبا لقائد فرقة عمل عسكرية أمريكية خلال عامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٥: ((كنا نظن أن قدرة طالبان قد تقلصت إلى حد كبير)).
أما بول توولان، وهو نقيب في القوات الخاصة خدم في ولاية هلمند عام ٢٠٠٥، فيري أن الخطأ الذي حدث تمثل في أن مسؤولون أمريكيون كبار نظروا بالخطأ إلى الحرب على أنها مهمة لحفظ السلام وإعادة الإعمار، بينما كانت في حقيقتها حربا.
ويقول نقيب القوات الخاصة أنه حاول بلا فائدة أن يشرح لأي شخص يستمع أن القتال قد اشتد وأن طالبان عززت قوتها النارية.
توولان في مقابلته في التاريخ الشفوي للجيش الأمريكي حذر قائلا: "إذا لم نفعل ذلك بشكل صحيح، فسوف نسمح لهؤلاء الرجال -يقصد مسلحي طالبان- بإبقائنا قابعين هنا لسنوات عديدة".
لكن إدارة الرئيس بوش قمعت هذه التحذيرات، وأخذت منحني آخر أتسم بتضليل الشعب، وترك الأمور تتحرك في الاتجاه الخاطئ، وهي ترسم صورة مشرقة للحرب في أفغانستان.
ففي مقابلة مع شبكة سي إن إن في ديسمبر ٢٠٠٥، قال وزير الدفاع الأمريكي حينها "دونالد رامسفيلد"، إن الأمور تسير على ما يرام لدرجة أن البنتاغون سيعيد قريباً ما يقرب من ١٠ في المائة من قواته إلى أفغانستان، وأعلن رامسفيلد أن قرار سحب هذه النسبة من القوات: "يعد نتيجة مباشرة للتقدم الذي يتم إحرازه في البلاد".
لكن بعد شهرين فقط من هذه التصريحات، تلقى مكتب رامسفيلد ومسؤولون آخرون في واشنطن تحذيرًا سريًا آخر من سفيرهم في كابل، فبالضبط في 21 شباط (فبراير) ٢٠٠٦، وفي برقية قاتمة، تنبأ السفير الأمريكي نيومان بأن "العنف سيرتفع خلال الأشهر العديدة القادمة" مع المزيد من التفجيرات الانتحارية في كابول والمدن الكبرى الأخرى.
في تلك البرقية، ألقى السفير الأمريكي باللوم على ملاذات طالبان في باكستان، وحذر من أنه إذا تُركت دون معالجة، فقد "تؤدي إلى عودة ظهور نفس التهديد الاستراتيجي للولايات المتحدة الذي دفعنا إلي التدخل منذ أكثر من ٤ سنوات"- بعبارة أخرى، قد تؤدي إلي أحداث ١١ سبتمبر أخرى.
في ذات البرقية، توقع نيومان أن يتضاءل الدعم الشعبي الأمريكي للحرب، إذا لم يتم التعامل مع هذه التوقعات وإدارتها بشكل صحيح، وكان رأيه أنه من المهم أن يتم محاولة إعداد وتهيئة الشعب الأمريكي لتلك التطورات السيئة حتى لا يفاجأوا ويروا كل شيء على أنه عكس ما قيل لهم.
لكن الجمهور الأمريكي لم يسمع مثل هذا الكلام الصريح، واستمرت حالة تضليله. ففي زيارة لأفغانستان بعد وقت قصير من إرسال السفير برقية، لم يذكر الرئيس بوش العنف المتصاعد أو حركة طالبان. وبدلاً من ذلك، روج للتحسينات مثل إقامة الديمقراطية والصحافة الحرة والمدارس للفتيات.
كما وقف بوش يخاطب الرئيس الأفغاني كرزاي في مؤتمر صحفي في الأول من آذار (مارس) ويقول: "نحن معجبون بالتقدم الذي تحرزه بلادكم".
بعد اسبوعين من هذه الكلمات، قدم الميجور جنرال بنجامين فريكلي، قائد الفرقة الجبلية العاشرة، إيجازا للمراسلين الصحفيين في قاعدة باغرام، نفي فيه أن تكون حركتا القاعدة أو طالبان في طور استعادة القوة، وبغرابة برر الجنرال الامريكي تصاعد أعمال العنف بأن الطقس كان أكثر حرارة عندما كانت القوات الأمريكية تهاجم!!!!.
قلب الحقائق:
قائد الفرقة العاشرة قدم سببا آخر كان أكثر إقناعا من الناحية النظرية، لكن عمليا فلقد كان قلبا للحقائق.
قال للصحفيين: "نحن ننقل المعركة إلى العدو". "إذا رأيتم زيادة في العنف هنا في الأسابيع والأشهر المقبلة، فمن المحتمل أن يكون مدفوعا بالعمليات الهجومية التي يقوم بها الجيش الوطني الأفغاني والشرطة الوطنية الأفغانية وقوات التحالف".
جنود بريطانيين من قوات المهندسين المدرعة يقومون بتفجير عبوة في قرية باساب في هلمند، Attribution-NonCommercial 2.0 Generic (CC BY-NC 2.0), Flickr |
وأضاف: "أخبركم أن التقدم في أفغانستان ثابت ويمكنكم أن ترونه حقًا".
وفي مؤتمر صحفي لوزراة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" في مايو من ذات العام، عاد الميجور جنرال روبرت دوربين، القائد الأمريكي المسؤول عن تدريب قوات الأمن الأفغانية للتضليل، فقدم تقريرا ورديا ناصعا عن حالة ومستوى قوات الأمن الأفغانية.
الجنرال الأمريكي رفيع المستوي وصف القوات الأفغانية بإنهم كانوا "فعالين في تعطيل وتدمير" أعدائهم، وأن الجيش الأفغاني حقق تقدمًا "ملحوظًا" في تجنيد أفراد جدد، (في ١٥ أغسطس ٢٠٢١.. سقطت العاصمة الأفغانية كابل في يد طالبان بغضون ساعات بعد انهيار القوات الأفغانية).
اختتم الجنرال دوربين حديثه يومها بدعوة الصحفيين لزيارة أفغانستان والحكم بأنفسهم على أداء قوات الأمن الأفغانية. قال: "أعتقد أنك إذا فعلت ذلك، فسوف تتأثر بنفس قدر ما أنا متأثر من تقدم مستوياتهم".
استدعاء محارب قديم:
بعد هذه الدعوة من الجنرال دوربين، جاء أحدهم بالفعل لزيارة أفغانستان ويري بنفسه الأوضاع علي الأرض.
لم يكن أحدا من الصحفيين الذين دعاهم دوربين، بل كان الجنرال المتقاعد "باري ماكافري"، الذي ينظر إليه في الولايات المتحدة باعتباره بطلاً في حرب الخليج. كان قد مر عقد من الزمان منذ أن كان في الخدمة الفعلية، لكن الجيش الأمريكي طلب منه زيارة أفغانستان وباكستان، وإجراء تقييم مستقل، في زيارة سرية، فلم يتم الإعلان عن مهمته.
خلال اسبوع، أجرى الجنرال ماكافري مقابلات مع خمسين من كبار المسؤولين في أفغانستان.
عاد ماكافري للولايات المتحدة، وبخبرته العسكرية النادرة، وضع تقرير مكون من تسع صفحات، أشاد فيها بالقادة الأمريكيين، وسلط الضوء على العديد من النجاحات التي حققوها بالفعل.
لكن المحارب القديم لم يخفف حكمه علي الحرب، والذي جاء كالتالي: ((طالبان ليست قريبة من الهزيمة، والحرب بالفعل "تتدهور" ضد القوات الأمريكية)).
الجنرال ماكافري أضاف في حكمه علي الحرب أن مقاتلي طالبان مدربين تدريباً جيداً، وأن أداءهم في المعارك "عدواني للغاية، وذكي في التكتيكات القتالية"، فضلاً عن كونها مسلحة بـ "أسلحة ممتازة". وأضاف أنه بعيدًا عن الذعر أو الشعور بضغوط الوقت عليهم، فإن مسلحي طالبان "سيعتمدون قريبًا استراتيجية انتظار خروجنا من أفغانستان".
في المقابل، قال ماكافري إن الجيش الأفغاني "يعاني من نقص الموارد بشكل بائس"، وجنود هذا الجيش لديهم ذخيرة قليلة وأسلحة رديئة أكثر من طالبان.
أما الشرطة الأفغانية فقد انتقدها بشكل أعنف، واصفا إياها بأنها لا قيمة لها: "إنهم في حالة كارثية: سيئ التجهيز، وفاسدون، وغير كفؤين، ومستوي قيادتهم وتدريبهم سيئ، وهو جهاز يعج بالعناصر التي تتعاطي المخدرات".
وفي تقريره أيضا، توقع ماكافري انه حتى في ظل أفضل السيناريوهات، يجب أن تمر ١٤ عامًا أخرى -حتى عام ٢٠٢٠-، قبل أن تتمكن قوات الأمن الأفغانية من العمل دون مساعدة الولايات المتحدة، وقد أثبتت الأحداث أنه وحتى بعد هذا التاريخ بعام كامل، انهارت القوات الأفغانية أمام طالبان بشكل كارثي وسريع للغاية بعد انسحاب الأمريكيين.
هذا التقرير الهام للغاية في ذلك التوقيت، تم تمريره بين عدد من قيادات الجيش الامريكي حسب ترتيب تسلسل القيادة، إلي أن وصل إلي وزير الدفاع رامسفيلد، وهيئة الأركان المشتركة.
كان مما ورد في التقرير كذلك، تحذير من الجنرال ماكافري قال فيه: "سنواجه بعض المفاجآت غير السارة في الأربعة والعشرين شهرًا القادمة".. ومنبها لشعور القيادة الوطنية الأفغانية بالرعب بشكل جماعي، بسبب اعتقادهم أننا سنخرج من أفغانستان في السنوات القادمة، وسينهار كل شيء مرة أخرى في حالة من الفوضى.
رامسفيلد.. استنتاجات المستشار:
لكن اذا ما كان هناك من سيقول بأنه كان من الصعب أن ينظر في ذلك الوقت إلي استنتاجات ماكافري بانها واقعية بما فيه الكفاية، وليست توقعات جنرال متقاعد خرف، فإن رامسفيلد سرعان ما تلقى جرعة قاسية أخرى من الواقع، جرعة كانت تصرخ بشهادة أن توقعات ماكافري صحيحة تماما.
ففي ١٧ أغسطس ٢٠٠٦، قدم مارين سترميكي، وهو المستشار المدني الموثوق لوزير الدفاع رامسفيلد، تقريرًا سريًا من ٤٠ صفحة بعنوان "أفغانستان عند مفترق طرق".
قام سترميكي برحلة منفصلة لتقصي الحقائق إلى منطقة الحرب بعد ماكافري وتوصل إلى العديد من نفس الاستنتاجات التي توصل إليها الجنرال السابق، ما يشير بيساطة لكونها "الحقيقة".
لكن تقرير سترميكي ألقى بظلال أقوى من الشك على مصداقية وقابلية حلفاء واشنطن في كابل، إنه كان يقصد الحكومة الأفغانية التي نعتها بالعجز، ووصف أساليب عملها بالملتوية، وأنها تركت فراغًا في السلطة في أجزاء كثيرة من البلاد لكي تستغله طالبان.
قال سترميكي في تقريره أيضا: "ليس الأمر أن العدو قوي للغاية، لكن الحكومة الأفغانية ضعيفة للغاية".
في غضون ذلك، كانت السفارة الأمريكية في كابول تعاني من موجة جديدة من التشاؤم الداخلي. مجددا يرسل السفير نيومان برقية سرية أخرى إلى واشنطن، بتاريخ ٢٩ أغسطس / آب، أرسل السفير الأمريكي في أفغانستان يقول صراحة: "نحن لا ننتصر في أفغانستان".
بعد أسبوعين من تحذير السفير، حلت الذكرى الخامسة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، استضافت قناة "ايه بي سي" الإخبارية الأمريكية ABC News، الجنرال ذو الثلاثة نجوم كارل إيكنبيري، وبدلا من مصارحة الشعب بالحقيقة، أخذ الجنرال يعرض نسخة للاستهلاك المحلي من الوقائع التي لا تبين حقيقة الحرب في أفغانستان.
أصر الجنرال في المقابلة بقوله: "نحن ننتصر ، لكنني أقول أيضًا إننا لم نربح الحرب بشكل نهائي بعد".
ولدى سؤاله عما إذا كانت الولايات المتحدة يمكن أن تخسر ، أجاب إيكنبري "الخسارة ليست خيارًا مطروحا في أفغانستان".
من المؤكد الآن، وبعد ١٤ سنة من تلك الأحداث، أنه إذا كان الجنرالات قد استمعوا إلى جنودهم في الميدان، لكانوا قد ابتعدوا عن مثل هذه الغطرسة.
الجنود:
لدينا علي سبيل المثال، الرقيب. جون بيكفورد، من ليك بلاسيد، نيويورك ، كان الرقيب بيكفورد يبلغ من العمر ٢٦ عامًا حينما أمضى معظم عام ٢٠٠٦ في مقاطعة باكتيكا في شرق أفغانستان، متمركزًا مع جنود آخرين من الفرقة الجبلية العاشرة في قاعدة تيلمان "Firebase Tillman" ، التي سمي على اسم بات تيلمان، لاعب الدوري الوطني لكرة القدم الذي التحق بالجيش بعد ١١ سبتمبر وقتل لاحقًا بنيران صديقة.
في شهادته، قال الرقيب بيكفورد إن القتال أصبح "أسوأ بعشر مرات" حينما جاء لأول مرة إلي شرق أفغانستان قبل ثلاث سنوات.
قوات أمريكية خلال عملية في أفغانستان، Attribution-NonCommercial-NoDerivs 2.0 Generic (CC BY-NC-ND 2.0), Flickr |
اصبحت وحدته تشتبك مع المتمردين بمعدل أربع أو خمس مرات في الأسبوع. أما العدو فقد أصبح يحشد ما يصل إلى ٢٠٠ مقاتل لمحاولة اجتياح نقاط المراقبة الأمريكية.
مضيفا في مقابلته عن التاريخ الشفوي للجيش: "قلنا إننا هزمنا طالبان، لكنهم كانوا دائمًا في باكستان يعيدون تجميع صفوفهم ويخططون، والآن عادوا أقوى مما كانوا عليه في أي وقت مضى". "في أي وقت يشنون فيه هجومًا أو كمينًا، كان ذلك منظمًا جيدًا ، وكانوا يعرفون ما يفعلونه".
في أغسطس ٢٠٠٦، كان بيكفورد يقود دورية في عربة همفي مدرعة عندما نصب المتمردون كمينا لقافلته بقذائف صاروخية، مزقت شظية فخذ بيكفورد الأيمن، وربلة ساقه والكاحل والقدم، ورغم أن فريقه صد الهجوم في النهاية، إلا أن أيامه كجندي مشاة، انتهت في ذلك اليوم.
أمضى بيكفورد ثلاثة أشهر يتعافى في مركز والتر ريد الطبي العسكري. وخلال فترة النقاهة، أخذ يفكر في التهديد المتزايد الذي يشكله المتمردون، وقال: "هؤلاء أناس أذكياء للغاية، ورغم أنهم العدو، لكنهم يستحقون الكثير من الاحترام ولا ينبغي أبدًا الاستهانة بهم، أبدًا".
-----
ترجمة المعرفة للدراسات لتقرير من واشنطن بوست عن كتاب أوراق أفغانستان : التاريخ السري للحرب.
الكتاب بقلم "كريج ويتلوك" مراسل تحقيقات في الواشنطن بوست في قضايا الأمن القومي، وعمل مراسلا لشؤون وزارة الدفاع الأمريكية، كما قام بالعمل كمراسل في أكثر من ٦٠ دولة، وسيطرح في ٣١ من أغسطس الجاري ٢٠٢١.
هذا وقد وصل والزعيم الفعلي لحركة طالبان (عبد الغني بارادار)، إلى أفغانستان يوم الثلاثاء ١٧ أغسطس ٢٠٢١، بعد يومين فقط من وصول مقاتليه إلى السلطة في جميع أنحاء البلاد. وأعلنت حركة طالبان عفوا عاما عن المسؤولين الحكوميين وأمرت المقاتلين بالحفاظ على الانضباط مع هدوء غير مستقر ساد العاصمة كابول.
استأنفت الولايات المتحدة ودول أخرى جهود الإجلاء العسكري لحلفائها الأفغان وغيرهم من المدنيين. وعلقت العمليات في وقت متأخر من يوم الاثنين عندما اجتاح آلاف الأشخاص مطار كابول في محاولة يائسة للفرار.