فانوس رمضان .. حكاية منذ ألف عام

من قبل بداية شهر رمضان بأيام وربما بأسابيع تراه حولك على أرفف المحلات.

تتعدد أشكال وأنواع وألوان فانوس رمضان، License use Creative Commons Zero - CC0. A referral link to Max Pixel.

وبمجرد أن يتم الإعلان أن يوم غد سيكون هو الأول من شهر رمضان، حتى يظهر في أيدي الأطفال، ويعلق في كل مكان، في الشوارع، على شرفات المنازل وفي الغرف.

إنه فانوس رمضان .. رمز الفرحة بقدوم الشهر الكريم، والذي بدأت حكايته منذ ما يزيد عن ألف عام، عندما دانت الكثير من بلاد المسلمين لحكم الخلافة الفاطمية، والذي بدأ من مصر ليصبح اليوم مظهرا عالميا للاحتفال بقدوم شهر رمضان المبارك.

بداية فانوس رمضان:

بدأت الحكاية مع الدولة الفاطمية التي تأسست في المغرب، ومن ثم أخذت في التوسع حتى ضمت مصر وفلسطين والشام، ومناطق في تركيا حاليا، وكذلك امتد سلطانها إلي الأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

والحقيقة أن هذه الدولة تركت إرثا ثقافيا فريدا وخصوصا في مصر، حيث عاصمتها (القاهرة) التي بناها جوهر الصقلي، وأصبحت عاصمة للدولة الفاطمية.

وكان من بين أهم ما تركه الفاطميين، مظاهر الاحتفال بالمناسبات الدينية، وعلى رأسها شهر رمضان الكريم.

في تلك الأيام، ولد أول فانوس، وظل على الدوام أحد أشهر مظاهر الاحتفال بقدوم شهر الصيام.

لكن، وللدقة التاريخية، يعتقد أن الفانوس لم يظهر في البداية كمظهر احتفالي بقدوم رمضان، بل باعتباره في الأصل وسيلة إضاءة، للإنارة خاصة عند الذهاب إلى المساجد ليلاً.

وفي رواية أخرى، أن الناس خرجوا لاستقبال (المعز لدين الله الفاطمي) عند وصوله مصر وفي أيديهم الفوانيس، إذ كان دخوله إلي القاهرة ليلة الخامس أو السابع من شهر رمضان عام 385 هجري (مصادر أخرى تحدد هذه الواقعة سنة 362 هجري) -ترك المعز حكم مصر لجوهر الصقلي، فضبط أمورها وبني مدينة القاهرة-.

شارع المعز لدين الله الفاطمي، العاصمة المصرية القاهرة، Mohammed Ali Moussa، (CC BY-SA 4.0)، via wikimedia commons.

ومن تلك اللحظة ارتبط الفانوس بدخول شهر رمضان، إذ كرر المصريين الاحتفال بقدوم المعز إليهم في الأعوام التالية، ومع الوقت رحل المعز، ومن ثم رحل الفاطميين، وبقي الفانوس وحده في وجدان هذا الشعب الذي يواصل الحياة منذ ما يزيد عن سبعة آلاف عام.

ولم تخلو الروايات أيضا من قصة طريفة، كان بطلها واحد من أعجب وأغرب الخلفاء عموما وليسوا الفاطميين فحسب، ونقصد هنا ((الحاكم بأمر اللَّهَ)).

فهذا الخليفة، والذي أشتهر بغرابة قراراته، يقال أنه قد أصدر قرارا بمنع سير النساء ليلا، باستثناء وحيد هو شهر رمضان، واشترط لذلك أن يسبق السيدة التي تسير ليلا للصلاة أو لزيارة أقاربها، غلام يحمل فانوس، حتى يعلم المارة أن معه سيدة، فيفسحون لها الطريق ويغضوا عنها أبصارهم.

وفي حكاية أخرى، أن أحد الخلفاء الفاطميين أراد إضاءة شوارع ومساجد القاهرة طيلة شهر رمضان، وكانت الفوانيس هي الوسيلة الأنسب لذلك.

فصدر قرار يلزم الناس في بيوتهم وأصحاب المحلات والمتاجر بتنظيف الشوارع أمامها، وتعليق فوانيس طيلة الليل، مع التحذير بإنزال العقوبة على من لا يفعل ذلك، وهكذا تتزين القاهرة وتصبح في أبهي حلة لها طيلة ثلاثين يوما هي مدة الشهر الفضيل.

قصة أخرى تقول أنه كان من عادة الخلفاء الفاطميين الخروج في الليلة السابقة على شهر رمضان بصحبة الناس والأطفال الذين كانوا يحملون في أيديهم الفوانيس، وذلك لاستطلاع هلال الشهر، ومن ثم يتحول الأمر إلي احتفال بقدوم رمضان.

بمرور الوقت، استغل الأطفال ذو الذكاء والشقاوة هذه الفوانيس للمشي ليلا طلبا للحلويات الفاطمية التي انتشرت في مصر وقتها، كما صاحبوا المسحراتي الذي يسير ليلا ليوقظ الناس لتناول السحور قبل صلاة الفجر.

أيضا، أصبح الفانوس لصيقا بدوريات رجال الشرطة الذين يجوبون الشوارع والطرقات ليلا لحفظ الأمن، طوال العام وليس خلال شهر رمضان فحسب.

فانوس رمضان، Via WallpaperFlare.

مثلت هذه الظاهرة الثقافية (فانوس رمضان) أرضية خصبة لظهور وازدهار أحوال طائفة من الصناع والحرفيين المختصين بصناعته، والذين كانوا يعملون طوال العام في تصنيع الفوانيس، وتخزينها لبيعها قبل وخلال شهر رمضان.

وعن ذلك يقول الإمام والمؤرخ تقي الدين المقريزي: ((كان يجتمع خمسمائة حرفي في أحياء القاهرة الفاطمية قبل الشهر ليصنعوا فوانيس)).

وهكذا أصبح الفانوس جزءا من نسيج شهر رمضان في مصر وانتشر منها للعديد من البلدان.

وأيا تكن الرواية الحقيقية لبداية قصة فانوس رمضان، والتي وبالمناسبة قد تكون أكثر من رواية مما ذكرناه فلا مانع من أن يتسع التاريخ لكل هذه الروايات أو بعضها.

أيا يكن، فقد تسع انتشار فانوس رمضان في أرجاء الدولة الفاطمية، وإن كان هناك مكان يمكنه الإدعاء بأنه ثاني أكثر الأماكن احتفاء بفانوس رمضان، حتى صار جزءا لا يتجزأ من مظاهر قدوم الشهر فيه، فإنها فلسطين.

ففي فلسطين، وخصوصا في القدس، يعد فانوس رمضان من المعالم المميزة التي تظهر كل عام، حتى مع الظروف العصيبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني الكريم، تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.

في القدس على سبيل المثال، يقام حفل في رمضان من كل عام لإضاءة (فانوس القدس الرمضاني)، وهي احتفالية يشارك فيها مسيحيين أيضا، ليتحول الفانوس في القدس إلي رمز من رموز المقاومة، والتمسك بالهوية العربية والإسلامية للمدينة.

وربما يعود السبب وراء تعلق المصريين والفلسطينيين بفانوس رمضان، وعدم اندثاره على مر السنين، هو طبيعة الشعبين واللذان يميلان إلي الأجواء الاحتفالية والبهجة.

يتعرض المسلمون في القدس للمضايقات لدرجة قيام بلدية القدس بمضايقاتهم ومحاولة منعهم من إقامة فانوس رمضان، مضايقات وصلت حتى ساحات القضاء الإسرائيلي.

فبالطبع لا يمكن أن ننكر أن شهر رمضان هو في الأساس شهر للعبادة ... لكن الناس في مصر وفلسطين وبعبقرية مدهشة نجحوا في المزج بين العبادة والاحتفال بقدوم رمضان في خلطة سحرية عجيبة، أهم عناصرها كان الفانوس.

في مدينة القدس أيضا سوق البلدة القديمة وطريق باب الواد، حيث يمكن أن تجد الفوانيس الحديدية بالزجاج الملون والمزخرف يدوياً، تباع في الكثير من المتاجر خلال شهر رمضان، وبالرغم من غلاء ثمنها. فإنها سلعة رائجة جدا، وتحرص الكثير من العائلات على شرائها.

وبإذن الله سيأتي اليوم الذي تتزين فيه القدس بفوانيس رمضان بعدما تتخلص من الإحتلال الإسرائيلي، ويتم إعلانها عاصمة للدولة الفلسطينية.

لكل فانوس حكاية:

تتنوع أنواع وأشكال وألوان بل وأسعار فانوس رمضان بصورة قد لا يمكن حصرها.

ومع ذلك، تظل الفوانيس التقليدية بشكلها المعتاد هي الأحب للنفوس.

وتعد (الأخشاب، الزجاج، الصاج) هي المواد الأساسية التي تصنع منها غالبية الفوانيس.

كما تستخدم الخيامية (وهو قماش يطبع باللونين الأحمر والأزرق) في صناعة فوانيس رمضان، ولا يخلو الأمر من الفوانيس المصنوعة من الخرز وإن كان الخرز أقل المواد استخداما في هذه الصناعة.

الجزء داخل الفانوس نفسه قد يختلف من فانوس إلي آخر، فبعضها وهي النسبة الأقل في يومنا هذا، يوضع بداخله شمعة للإضاءة، في حين أن معظم الفوانيس حاليا مزودة ببطارية للإضاءة.

الملك فاروق الأول .. ملك مصر والسودان، (Photo by Hulton Archive/Getty Images)، (CC BY-NC-SA 2.0)، via Flickr.

على أي حال، فقد حجزت الفوانيس لنفسها مكانا لا ينافسها فيه أحد بين مظاهر الاحتفال بقدوم شهر رمضان، وأيا كان المستوي الاجتماعي، ستجد الفانوس في أزقة الحواري الفقيرة، مرورا بمكاتب الشركات ومراكز التسوق والفنادق والمطاعم، وصولا إلي قصور علية القوم.

ومن الحكايات المرتبطة بالفانوس أيضا، والتي تتصل كذلك بمصر لكن في العهد الملكي (عهد أسرة محمد علي باشا)، أن قاعة البرلمان المصري كانت تسمي قاعة الفانوس بسبب تعليق فانوس كبير فيها في ثلاثينيات القرن الماضي.

أيضا، وفي أحد حفلات الاحتفال بعيد ميلاد ((الملك فاروق الأول))، تم شراء ٥٠٠ فانوس لتزيين القصر يومها. سيصبح الفانوس (فاروق) أحد أشهر الأنواع في مصر لسنوات متعاقبة، ويمكن للمصريين أن يجدوا مثله في الأماكن التقليدية لصناعة فانوس رمضان في بلدهم، وبالتحديد في ورش منطقة تحت الربع القريبة من حي الأزهر.. والغورية.. ومنطقة بركة الفيل بالسيدة زينب.

فوانيس رمضان الصينية:

لسنوات، ظلت فوانيس رمضان تمثل حالة غريبة للغاية خصوصاً في مصر بسبب توسع استيرادها من الصين.

تجاريا، مثل ذلك ربحا كبيرا للمستوردين، عبر إغراق السوق بفوانيس ذات سعر أقل من الفوانيس المحلية، ووجه ضربة قوية للورش المحلية الصغيرة التي بدت عاجزة إلي حد كبير عن المنافسة، خصوصا أنه لم يتخذ إجراءات حكومية فعالة لحمايتها.

وبالرغم من صدور قرار حكومي مصري يحظر استيراد الفوانيس من الخارج (الصين) عام ٢٠١٥، وذلك بهد منع استيراد السلع ذات الطابع الفلكلوري وللحفاظ على المنتج المحلي، فإن الأسواق لم تخلو من الفوانيس الصينية الموجودة بغزارة.

ثقافيا، بدأ شكل فانوس رمضان المستورد من الصين يتغير عبر السنوات.

ففي البداية، كانت الفوانيس الصينية تأتي بنفس شكل الفوانيس المحلية، لكن مع مرور الوقت، بدأنا نشاهد أشكال لا يربطها أي صلة بفانوس رمضان.

 

فانوس رمضان مصري تقليدي كبير الحجم، يوضع الفانوس بهذا الحجم على باب شارع أو طريق.

ربما كان ذلك أفضل تجاريا بالنسبة للمستوردين، عبر تقليل تكاليف الإنتاج، كما أن الأطفال الذين هم المستهلك الأول لفوانيس رمضان، لا يعرف الكثيرون منهم شكل الفانوس الأصلى وبالتالي أصبحنا أمام ألعاب عادية مزودة فقط بصوت بغيض لبعض أشهر أغاني رمضان.

ولعل ذلك طبيعي، فإننا نشهد حالة من الصعب فهمها، إذ ربما لا توجد شعوب في العالم تعتمد على غيرها في صناعة رموز ثقافتها وتاريخها.

هل لنا أن نتخيل مثلا أن نصنع في مصر أو فلسطين أو الأردن أو سوريا أو أي من بلاد العرب، أن نصنع رموز الأعياد التقليدية الصينية؟.

هل من الممكن أن ينتج معمل في حلب أو دمشق لافتات عيد الربيع، أو تنتج ورشة في القاهرة فوانيس عيد يوان شياو، أو يصنع الفلسطينيين الطائرات الورقية المستخدمة في عيد تشينغ مينغ (عيد الصفاء والنقاء) !!!.

وفي النهاية .. لدينا سؤال،، هل أشتريتم فانوس هذا العام؟.

المعرفة للدراسات
بواسطة : المعرفة للدراسات
المعرفة للدراسات الإستراتيجية والسياسية، هي محاولة عربية جادة لتقديم أهم الأخبار العربية والعالمية مع التركيز علي تحليل مدلولاتها، لكي يقرأ العرب ويفهمون ويدركون. نمتلك في المعرفة للدراسات عددا من أفضل الكتاب العرب في عديد من التخصصات، لنقدم لكم محتوى حصري وفريد من نوعه. facebook twitter
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-