يلاحظ زوار بيت الله الحرام في مكة المكرمة ملحوظة يستغربها الكثيرون منهم، إنه الرخام الذي يغطي الحرم المكي.
رخام التاسوس اليوناني يغطي أرضية الحرم المكي، Prof. Mortel، (CC BY 2.0)، via wikimedia commons. |
فعندما يخلعون نعالهم حجاجا أو معتمرين، للطواف بالبيت أو للسعي بين الصفا والمروة، متهيئين -خصوصا في فصل الصيف الذي تصل درجة الحرارة في مكة إلى ٥٠ درجة مئوية في بعض أيامه- لتلامس أقدامهم أرضية حارة، فإنهم يجدون العكس، أرضا رخامية باردة.
ظن البعض، بل وتحدث عدد منهم أن هناك مواسير مياه باردة أسفل الرخام هي السبب وراء تلك البرودة، لكن هذا لم يكن حقيقيا.
فالسر وراء ذلك هو رخام نادر قادم من جزيرة تاسوس في شمالي بلاد اليونان، يسمي بنفس اسم الجزيرة المستخرج منها (رخام تاسوس) أو ثاسوس... فما قصة هذا الرخام؟.
رخام التاسوس:
رخام التاسوس هو رخام يوناني أبيض اللون، زادت شهرته وذاع صيته حول العالم منذ ثمانينات القرن العشرين، بعدما كان قد ذهب طي النسيان لفترة طويلة، ليستعيد شهرته التي اكتسبها قديما في بلاد اليونان.
فبين القرنين السادس والأول قبل الميلاد، استخدم الإغريق والرومان رخام تاسوس لبناء المعابد والمنحوتات.
وبالعودة إلى ثمانينات القرن الماضي، بدأت المحاجر في جزيرة تاسوس الواقعة في بحر إيجه، وخصوصا تلك المحاجر في منطقة باناجيا من الجزيرة التي لا تزيد مساحتها عن ٣٨٠ م²، بدأت تتلقي معدلات طلب متزايدة من جميع أنحاء العالم.
الجميع راغب في رخام التاسوس الذي لا يوجد مثله في أي مكان آخر حول العالم، والزبائن من كل مكان، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط واليابان وأجزاء أخرى من آسيا وأمريكا الشمالية.
ما يتميز به رخام تاسوس، أنه أحد أنقى أنواع الرخام الأبيض في العالم، ويستخرج من صخور طبيعية قوية للغاية ذات لون أبيض ثلجي أو كريستالي يمنحه إشراق وتألق مذهل.
يغطي رخام التاسوس كامل مساحة الحرم المكي من الداخل والخارج، Richard Mortel، (CC BY 2.0)، via Flickr. |
إذ يتكون رخام التاسوس من بلورات صغيرة شفافة، هذه البلورات منحته اسمه الثاني المعروف به عالميا "الرخام البلوري اليوناني"، وهذه نقطة تفوق جديدة لرخام التاسوس على مثيله الموجود في فيتنام والذي يتكون من بلورات شفافة أيضا لكنها كبيرة الحجم.
سلعة نادرة:
من أهم نقاط تميز رخام تاسوس، الحقيقة التي تقول أنه سلعة نادرة لا توجد عند أحد بخلاف اليونانيين، وفي جزيرة تاسوس فحسب.
بالطبع يرفع هذا من ثمن رخام التاسوس، ما يجعله مصدرا هاما للدخل للجزيرة، لذا حرصت حكومة جزيرة تاسوس على تنظيم عمليات استخراجه.
عشرة محاجر فقط في الجزيرة اليونانية هي التي تنتج الرخام الذي يحمل اسمها، ومنها يتم تصديره إلى كافة الزبائن حول العالم.
رخام الحرم المكي:
عندما شرعت الحكومة السعودية منذ عقود في تجديد أرضية الحرم المكي، بحثت كثيرا عن أنسب ما يمكن استخدامه لهذا الغرض، وفي النهاية وقع اختيارهم على رخام التاسوس.
كان الاختيار مبنيا على سبب هام، إنه السماكة الكبيرة لرخام تاسوس والتي تصل إلى ٥ سم، ووجود عدد من (المسام) فيه، والتي تسمح له بتخزين الرطوبة والبرودة في الليل.
هذا بخلاف اللون الأبيض الناصع للرخام، والذي يعد في الأصل عاكسا جيدا للحرارة.
هذا هو سر رخام التاسوس الدفين، والذي ينبعث في النهار بردا لأقدام زائري المسجد الحرام، وكان هو نفسه السبب الذي دفع السعوديين لتفضيله على الجرانيت والرخام الطبيعي.
وتعد حكومة خادم الحرمين الشريفين أحد أهم زبائن رخام جزيرة تاسوس، إذ تحصل عليه في صورة قطع كبيرة الحجم، تنقل بصورتها تلك على ظهر السفن إلى المملكة حيث تتولى مصانع سعودية مهمة تقطيعها ومعالجتها وتجهيزها للاستخدام في الحرم.
ولأن رخام التاسوس، مثله مثل أي مواد الطبيعة، يفقد خصائصه تدريجيا بمرور الوقت وتعاقب الزمن وكثرة الاستخدام، فإنه يبهت ويفقد خصائصه المولدة للبرودة بشكل طبيعي، وهنا يتم استبدال أي قطعة يحدث لها ذلك بشكل فوري، خدمة للبيت العتيق ولزواره.
على سبيل المثال، استغلت رئاسة شؤون الحرمين فترة إيقاف العمرة في نوفمبر ٢٠٢٠، وقامت بتغيير ٤ آلاف قطعة من رخام التاسوس في المسجد الحرام.
وفي يناير ٢٠٢١، تم استبدال مساحة ١٥٠ متر مربع من رخام صحن الطواف بالمسجد الحرام.
نقطة هامة أخرى ينبغي الإشارة إليها هنا، وهي أن السعوديين قد يدفعون أكثر لشراء رخام تاسوس، فهم يطلبون كميات كبيرة، وألواح بأحجام كبيرة، وجودة عالية النقاء، هذا كله يرفع السعر مقارنة بمن لا يركز في المواصفات ويرغب فقط في رخام تاسوس بحجم قياسي وانتهي الأمر.
هذه النقطة بالتحديد تجعلنا نثني على الحكومة السعودية وعلى كل القائمين على هذا الملف بالذات.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه قد تم ابتكار استخدام آخر لرخام التاسوس في الحرم، بجعل كل بلاطة من بلاطاته تحتوى على إشارة إتجاه نحو القبلة، ما يساعد المصليين على توليه وجوههم شطر الكعبة.