تركزت الدراسات والأبحاث التي نظرت في دور المملكة المتحدة الفعال في قيام دولة إسرائيل علي العديد من النقاط كان أبرزها دوما (وعد بلفور)، أو التسهيلات المقدمة لهجرة اليهود وتوطينهم في فلسطين، أو حتى ترك العديد من المواقع ذات الأهمية الإستراتيجية ليلة انتهاء الانتداب البريطاني علي فلسطين في يد العصابات الصهيونية. جميع ما سبق لا يمكن إغفاله أو أن نقلل من أهميته.
لكن إذا نظرنا بمنظار التأريخ القانوني للأحداث لوجدنا دليلا جديدا في غاية الأهمية
علي دور الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس في تلك الأيام في صناعة كل ما حدث،
فمع مرور ذكرى سبعين عاما علي قيام إسرائيل في مايو 2018، انصرم قرنا كاملا علي تلك
الأيام وما شهدت من أحداث.
فإذا ما اعتبر القانون على الدوام تعبيرا عن عادات المجتمع وقيمه وأعرافه،
بتحديده للجرائم ومدى خطورتها، للعقاب الذي ارتضاه الناس لمرتكبيها، ووضعه لقواعد
التعاملات الإنسانية علي اختلاف أشكالها، سواء المادية منها أو الاجتماعية أو أي
صورة أخرى.
فإن فلسطين يومها بحر من العرب المسلمين والمسيحيين وأقلية ضئيلة من
اليهود، ولذا كان لافتا للنظر ذلك الاهتمام البريطاني السريع بملف وضع تشريعات
جديدة تحكم فلسطين بدلا من التشريعات القائمة المتسقة مع المجتمع وتركيبته
الديموغرافية.
فعقب الدخول التاريخي للجنرال (ألنبي) للقدس من بوابة يافا علي قدميه كي لا
يظهر بمظهر الغزاة ويعبر في الوقت ذاته عن احترامه للمدينة المقدسة -وهو الحدث
الذي يؤرخ منه بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين-، بستة أشهر فقط تم استدعاء السير
(أورم بيغلاند كلارك) الضابط والمحامي الإنجليزي لمهمة جديدة.
ومما يثير الدهشة قبل الحديث عن مهمة السير كلارك، أن بالنظر لسيرة الرجل
نجده كان في الشرق الأوسط فعليا منذ العام 1914 لكن كمستشار للإمبراطورية
العثمانية، وفي هذا مبحث هام يستحق النظر فيه، فعلي أي أساس كانت إمبراطورية الرجل
المريض تختار مستشاريها في أواخر أيامها؟.
البذرة الأولي:
في الفترة من ديسمبر عام 1917 وحتى يونيو 1918، تم تعطيل القضاء والمحاكم
في فلسطين، ومع استلام الجنرال البريطاني "موني" منصبه كمدير عام
للإدارة العسكرية في أبريل 1918، عمل علي إعادة الحياة للمؤسسات والإدارات
الحكومية لمعاونته علي تسيير أمور البلاد، وعهد للسير كلارك بمهام مستشار العدالة
البريطانية. ليصبح بذلك المسئول عن المحاكم والقضاء في فلسطين.
والسائر اليوم في شارع "شاعري مشباط" الذي يتفرع من طريق بن
غوريون في القدس المحتلة، سيجد مقر "المحكمة العليا الإسرائيلية"، في
هذا المكان بالضبط كانت "محكمة الاستئناف في القدس"، والتي اختصت بنظر
قضايا الجنايات.
تولي السير كلارك نفسه مسئولية إنشائها وتنظيم العمل بها، وتوزيع مهام
القضاة والأشراف كذلك علي مهنة المحاماة، وإصدار لوائح أصول المحاكمات، باختصار
يمكننا اعتباره كان وزيرا للعدل ومشرعا في الوقت ذاته.
صورة للمحكمة العليا الإسرائيلية، Adiel lo، licensed under the Creative Commons Attribution-Share Alike 3.0 Unported license، via wikimedia commons. |
ومع حلول العام 1920 حدث تغيير جديد هام وضخم في منظومة القضاء في فلسطين
بتلك الأيام، ففي ذلك العام تم إلغاء استخدام اللغة التركية في المحاكم، وإن كان
يمكن تفهم ذلك باعتبار انتهاء الوجود العثماني في البلاد، علاوة علي أنها ليست لغة
أهل البلاد في الأصل.
إلا أن الملفت للنظر كان السماح في الوقت ذاته للغة العبرية بأن تكون لغة
معترف بها في التقاضي أمام المحاكم المختلفة، وهو ما أشار إليه بدقة الكاتب
إبراهيم سالم الزاملى، (انظر) كتابه القيم (فلسطين في التقارير البريطانية
1919-1947)، والصادر في القاهرة عن دار ابن رشد عام 2016.
في هذا الصدد، لا يمكن الاحتجاج بأن سكان فلسطين وقتها كان من بينهم
اليهود. فحسب إحصاء لجنة (كنج كراين) عام 1922، وصل عدد سكان فلسطين إلي 754.48،
غالبيتهم العظمي من المسلمين إذ بلغ تعدادهم 589,177، بينما كان اليهود 83.790،
وباقي التعداد كانوا من المسيحيين وبعض الطوائف الصغيرة الأخرى.
ومع أنه قد يقول قائل أن هذا القرار جاء تدعيما لمبدأ المواطنة، فهذا القول يدحضه أن هؤلاء اليهود كانوا من سكان البلاد وبعضهم يعيش فيها منذ مئات السنين، يتحدثون العربية كباقي أهلها تماما.
بل تولي العديد من اليهود الكثير من الوظائف
التي كانت تسير معظم أعمالها باللغة العربية، وبذلك يتضح أن هذا القرار كان يستهدف
أحداث تغيرين هامين للغاية في الوضع السائد وقتها:
التغيير الأول: تغيير في طبيعة المنظومة القضائية نفسها، مما
يمهد الطريق أمام تغييرها بشكل جوهري أو كلي إذا ما أتيحت الفرصة، مما يعني ميلاد
الدولة الصهيونية علي أسس قانونية تتناسب معها، بدلا من إنشاء نظام قانوني من
الصفر مع تأسيس الدولة مما سيكلف الكثير من الوقت والجهد الذي ينبغي توفيره
للمعارك المتوقعة مع العرب.
وفي الطريق للوصول إلي هذا الهدف يتم القيام بالتعديلات اللازمة حتى
لإمكانية استيعاب اليهود المهاجرين الجدد من بلاد مختلفة حول العالم، وهذا ما
يقودنا بدوره إلي التغيير الثاني المطلوب حدوثه.
التغيير الثاني: ويتمثل في تشجيع حركة الهجرة اليهودية إلي
أرض ميعادهم المنشودة، فمع الاعتراف باللغة العبرية كلغة للتقاضي أصبح بمقدور
هؤلاء القادمين من أرجاء الكوكب كله أن يتخطوا عدم معرفتهم باللغة العربية أو حتى
الإنجليزية.
بالتالي سيساعد ذلك علي إحداث التغيير الديموغرافي المنشود، الذي يقود
بدوره في النهاية لإمكانية قيام الدولة المرتقبة، وهو ما حدث في مجالات أخرى
متعددة كان التعليم أهمها بموافقة بريطانيا علي استقلال التعليم اليهودي عن منظومة
التعليم في فلسطين.
جنبا إلي جنب وفي ذات الوقت مع هذا كله، تم إسناد بعض أهم وظائف السلطة
القضائية إلي اليهود، ومن الأمثلة علي ذلك قرار (هربرت صموئيل) اليهودي الذي كان
أول من شغل منصب المندوب السامي البريطاني في فلسطين بتعيين أحد غلاة الصهاينة وهو
(نورمان بنتويتش) بمنصب (السكرتير القضائي) -أي النائب العام-.
ومن خلال منصبه أطلع نورمان الصهاينة
علي مشاريع القوانين وهي لا تزال مسودات تناقش لوضع التعديلات المطلوبة لتحقيق
مصالحهم، مما أفقد تلك القوانين أهم خصائصها وهي التجرد في مواجهة أبناء المجتمع
كافة، بل لا حرج إذا ما قلنا أنها فقدت مفهوم القانون نفسه.
كما أستغل منصبه أيضا في إصدار تشريعات وصل عددها في بعض التقارير إلي 350
تشريعا، لعبت دورا حاسما في تدعيم قدرة اليهود علي ابتلاع المزيد من الأراضي
العربية وعلي الرأس منها تلك الأراضي ذات الأهمية التكتيكية العالية في المعارك
المرتقب وقوعها مع إعلان الدولة، وكذلك الأراضي الزراعية الخصيبة.
دستور صاحب الجلالة:
كان من ضمن الخطوات الهامة في عملية هيكلة ومنح الشرعية المطلوبة للمنظومة
القانونية لتتلاءم مع قيام الدولة الصهيونية المنتظرة حينها، إصدار مرسوم الدستور
في العاشر من أغسطس/آب من العام 1922برعاية من صاحب الجلالة والجالس علي عرش
الإمبراطورية البريطانية وقتها الملك (جورج الخامس).
في هذه الفترة ربما كان العمل علي الأرض أهم حتى من الدساتير، ففيه نري النص علي إنشاء محاكم دينية في عدد من المواد ومنها المادة 52 التي نصت علي إنشاء محاكم شرعية للمسلمين تختص بالنظر في سائر مسائل وقضايا أحوالهم الشخصية.
وكان التقاضي في تلك المحاكم علي درجتين، علي أن تحوز أحكام الدرجة الثانية حجية نهائية فلا يجوز
الطعن عليها، ولم يشر الدستور إلي محاكم خاصة باليهود تحديدا.
لكن علي الأرض تم السماح لليهود بما هو أهم من الدستور هذه المرة، فمع
مواجهة أي قوة عسكرية فلسطينية بعنف شديد من طرف البريطانيين وسحقها، سمح لليهود
بتشكيل قوة عسكرية واقتصادية وتجمعات سكانية ستكون هي النواة الأهم لما سيحدث بعد
عام وربع قرن من هذا التاريخ.
ومع ذلك فلم يتم إهمال الصعيدين القانوني والإداري فلقد أعطي مرسوم الدستور للمندوب السامي البريطاني صلاحيات السلطات التشريعية، وهو ما أطلق يد شاغل هذا المنصب حتى عام 1939 حينما ألغيت المواد من 18-34 بمرسوم معدل نص علي تأسيس مجلس تشريعي للبلاد.
وهكذا فمع صدور مرسوم تأسيس مجلس تشريعي في فلسطين، ثم صدور (الكتاب الأبيض) في نفس العام، كان هناك أملا في
تصحيح المسار وإعادة الحق الفلسطيني لأهله مع تعهد بريطانيا بإنشاء دولة فلسطينية
مستقلة بعد عشرة أعوام وبمنع هجرة اليهود إلا بموافقة الفلسطينيين بحلول العام
1944.
إلا أن كل هذه الوعود تبخرت في الهواء، بل إن الدليل الذي لم تمحوه الأيام
هو تلك الصور التي لا تعد للجنود والضباط البريطانيين وهم يشرفون علي عمليات
استقبال اليهود المهاجرين لفلسطين.
ومن الملاحظ أن العديد من القوانين حتى بعد قيام إسرائيل وإلي الآن ظلت
تحترم هذا الدستور، لكن وبعد عام 1948 كان لابد من إنشاء محاكم دينية لليهود
أنفسهم، ومع ذلك انتظر هؤلاء القادمين من كل حدب وصوب لأرض ميعادهم حتى عام 1953
حينما صدر (قانون المحاكم الرباني).
ولعل هذه الفترة الزمنية تشير إلي أن هذا القانون لم يكن من ضروريات وضع
الأسس القانونية لإسرائيل والتي تعرضنا لأهمها. فأسس ونظم القانون المذكور عمل تلك
المحاكم جاعلا إياها علي درجتين للتقاضي "لوائية ابتدائية" و "عليا
ربانية" تفصل في قضايا وزواج وطلاق اليهود، وبشكل عام ظل رئيس تلك المحكمة هو
نفسه أكبر حاخامات إسرائيل.
هذا ويطول البحث وتكثر النقاط الهامة في هذا الغرس القانوني الذي كان لزاما
تهيئة تربته ودسه كزرع خبيث في أرض فلسطين العربية.
كان القانون واحدا من الملفات التي تم العمل عليها تمهيدا لقيام هذه الدولة
عام 1948، ولا تزال لهذه الخطوات التي تمت منذ عقود حضورها وتأثيرها البالغ في
القوانين الحاكمة في إسرائيل التي ليس لها حتى يومنا هذا دستورا مكتوبا.
وكأن التاريخ القانوني أراد رغم كل شيء أن يبين لنا هذا الميلاد الغير طبيعي لتلك الدولة. والحقيقة أن اقتفاء أثر تلك المرحلة قانونيا سيوضح للباحثين الكثير من الأدلة التي تدعم حق عودة الشعب الفلسطيني إلي أرضه وفقا لكل القوانين الدولية.