فرسان اللغة العربية في ساحات المحاكم .. ما هي العلاقة بين القانون واللغة
هنا أبنية المحاكم، حيث تدور ملاحم بشرية، بين البراءة والإدانة، بين
الحرية والسجن، هنا تحفظ الحقوق، وتصان الأعراض، هنا البسمات والصرخات والدموع،
هنا شهادة الحق ويمين كاذبة، هنا تدلي أموال الناس إلي الحكام، علي هذه الأرض
تختصر كل تفاعلات الأنفس البشرية داخل قاعة مساحتها أمتار.
دار القضاء العالى في العاصمة المصرية القاهرة، حيث محكمة النقض أقدم محكمة عليا في الوطن العربي، في هذا المبني دارت بعض أهم المرافعات القانونية في تاريخ بلداننا العربية. |
وعلي هذه الأرض، في ساحات نزال ضيقة ماديا، فسيحة معنويا، نصت قوانين دولنا
العربية أن تكون لغة الضاد هي اللغة المستخدمة في المرافعات الشفهية أو المذكرات
المكتوبة، فأبدع أجيال من المحامين والقضاة في استخدام اللغة العربية في مرافعاتهم
وأحكامهم، حتى أننا بقراءة بعض النصوص من أوراقهم قد يظن القارئ أنه يتلو كلمات نص
أدبي محكم الصياغة والترتيب، ومن بين صفوف هؤلاء وهؤلاء خرج لنا العديد من كبار
الكتاب والشعراء الذين ساهموا في حياتنا الأدبية بالكثير من الروائع.
فها هو المحامي الكبير الذي عمل قاضيا أيضا (محمد حسين هيكل باشا) صاحب
رواية "زينب" والتي يعتبرها الكثيرون أول رواية عربية، والكتاب التاريخي
"حياة محمد صلي الله عليه وسلم" الذي يعتبر تأصيلا علميا فريدا للسيرة
النبوية الشريفة، والذي عمل كذلك وزيرا للمعارف لأكثر من مرة في مصر وسياسيا كبيرا
مثل بلاده في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة.
ومعه (توفيق الحكيم) الذي عمل في النيابة العامة ليهدي للمكتبة العربية رائعته "يوميات نائب في الأرياف" التي تم تجسيدها علي شاشة السينما، ومن المحامين نري أيضا (فكري باشا أباظة) الذي لقب في ذات الوقت بشيخ الصحفيين، والروائي الكبير (يحيي حقي) صاحب رواية "قنديل أم هاشم".
كما نجد لدينا الفذ (إحسان
عبد القدوس) بروائعه التي لا يتسع المجال لذكرها ومنها "في بيتنا رجل،
والرصاصة لا تزال في جيبي" وكذلك الكاتب والسياسي الكبير (أحمد بهاء الدين)
الذي شغل منصب رئيس تحرير الكثير من المؤسسات الصحفية العربية مثل جريدة الأهرام
المصرية والعربي الكويتية.
لحن اللغة :
هناك حديث مشهور عن النبي صلي الله عليه وسلم، أنه قال لرجلان اختصما إليه:
""إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من
بعض، فأقضي له علي نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه
شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار"".
يبين هنا الرسول الكريم أن للحن باللغة أثر علي نفس المستمع، وهو في حالتنا
القاضي -بل أن بعض المرافعات وصلت إلي درجات من الإتقان جذبت لها أسماع الحضور
جميعا وأسرت ألبابهم علي اختلاف درجات وعيهم وتعليمهم، فليس كل من في القاعة من
المحامين- ، كما أنتج القضاة بدورهم أحكاما وصلت من جودتها إلي أن أصبحت مرجعا
لأقرانهم، ونصا تناقله المحامون.
والقضية هنا ليست بسيطة، فمسألة دمج النص اللغوي العربي مع القواعد
القانونية الحاكمة لوقائع المنازعات القضائية هي أمر في غاية الدقة، فليس المطلوب
زخرفة لفظية أو سجعا أو طباقا، وإنما توصيل الفكرة وتوضيح الحقيقة والوصول إليها
بعملية فنية شديدة الدقة.
لقد شاهدت هذا عمليا في الكثير من القضايا، فهناك من المحامين من يقف أمام القاضي بكلمات خافتة قد لا يستطيع حتى سماعها فيطلب منه إعادتها، أو يضطر هو إلي تحريك جسده إلي الأمام كي يستطيع السمع، ومنهم من يكن ذا صوتا قويا وحجة ضعيفة، ومنهم من يترافع دون جذب للأسماع أو توصيل للأفكار حتى يمل منه كل الحضور.
وهناك
تلك الصفوة التي جمعت بين معرفة علم القانون وتماسك بنيان اللغة وفصاحة اللسان
ووضوح الفكرة، حتى يشعر الجميع أن القضية التي تعقدت قد حلت وأصبحت سهلة الفهم
والإدراك.
إن هذه الشخصيات المتباينة تذكرني دائما بقول الحق سبحانه وتعالي في الآية
76 من سورة النحل: "وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر علي شيء وهو كل
علي مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو علي صراط
مستقيم".
اللغة العربية وسيادة القانون :
هكذا يتطلب تحقيق العدالة الفعالة بجوار تطبيق القانون واحترام المساواة، امتلاك ناصية اللغة العربية واستغلالها للوصول إلي ضمير القاضي، بالتالي ترتبط اللغة بالمبدأ الأول والأساسي من مبادئ أمان المجتمعات واستقرارها "مبدأ سيادة القانون".
لقد شهدت أروقة وقاعات المحاكم مرافعات تاريخية لمحامين هم حقا فرسانا للغة
العربية، فرسانا يرتدون زيا كالكفن بدون جيوب باللون الأسود دائما، انتزعوا الكثير
من الحقوق العامة أو الخاصة، وقفوا أقوياء دون سلاحا سوي لغتهم وحجتهم، في وجه
أقوياء السلطة والمال الذين سعوا لنيل ما ليس لهم، وكانوا علي الدوام وسيلة الضعيف
وحصنه في مواجهة القوي، سدنة في محراب القضاء يتحول القانون علي أيديهم من نصوص
مكتوبة إلي عدالة حية.
إن أي انتقاص من قدرة المحامين علي القيام بهذا الدور، أو فرض قوة الأمر الواقع من القوي علي الضعيف، وبقاء التهديد بالعقوبة سيفا علي رؤوس الضعفاء دون الأقوياء، يؤدي في النهاية إلي غياب سيادة القانون وذهاب تقديره من ضمير العامة وانقطاع تلك الرابطة الغريزية بين جمهرة الشعب وممثلي العدالة في تلك المنظمة العامرة.
تكون النتيجة أن يضحي المجتمع أشبه بغابة يأكل فيها القوي الضعيف، تسود فيه أمراض النفوس
من غل وحقد وكراهية، ليصاب الوضع بالاحتقان وتكفي شرارة صغيرة لإشعال كل شيء ، لقد
شاهدنا ذلك عمليا في أوروبا الشرقية في التسعينيات، وللأسف في بعض بلادنا العربية
مؤخرا.
هذا الفكر القانوني الشديد الالتصاق بأمن المجتمع والذي تلتزم به الدول ذات
الأنظمة القائمة علي مفهوم سيادة القانون، هذا بالضبط هو عين ما قاله رسول الله
صلي الله عليه وسلم: ""إنما هلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم
الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد و أيم الله لو أن فاطمة بنت
محمد سرقت لقطعت يدها"".
هذا الحديث ترجمته في القانون (مبدأ سيادة القانون)، حيث الجميع أمامه سواء، والعدالة عمياء لا تفرق بين الغني والفقير أو صاحب المنصب والنفوذ وهذا المواطن البسيط، وإن أي هبوط بمستوي المحامين عن أداء تلك الوظيفة بالمستوي المطلوب لهو سلاح يوجه إلي أمن المجتمع واستقراره.
لقد قال أحد شيوخ القضاة ذات يوم: ((أنني
أشعر بالسعادة الغامرة حين يترافع أمامي أحد المحامين الممسكين بناصية القانون،
العارفين بأساليب اللغة)) قاصدا بمقولته تلك إيضاح هذا الدور الخطير للغاية الذي
يؤديه المحامي في توصيل القضاء إلي غايته المنشودة وهي (العدالة).
كلمة في الختام :
إن هذه الصورة البراقة، وشجرة العدالة الوارفة التي أظلت المجتمع بأوراقها
وغصونها، وهبت منها نسمات هواء رقيق طمأن النفوس وربط علي القلوب، شابها اليوم
الكثير من الآفات التي تأتي علي أوراقها، وبعضها تنخر في جذورها نخرا، ففي البداية
وربما أقلها خطرا، نجد آفة الاعتماد علي الطباق والسجع في مرافعات همها الأول
الاستعراض اللغوي، ثم نجد من ينزل درجة أخري لتغلب العامية علي مرافعته، وينسي أن
حديث المحاكم هو حديث "خاصة إلي خاصة"، ومنهم من يهوي إلي درك تصيب فيه
العامية والسطحية أفكاره قبل كلماته.
إننا وإن كنا نسعى للتقدم في العلوم الطبيعية كالكيمياء والفيزياء والطب والهندسة، لا يجب أن يفوتنا أن مجتمع بلا منظومة قضائية قوية فلا فائدة فيه لكل ما سبق، وأن الاهتمام بالعلوم الإنسانية وإدراك أهميتها الحقيقية هو أمر بالغ الأهمية في رحلة المجتمع نحو التطور والاستقرار.
كلية الحقوق في جامعة الكويت. |
لقد أصبحت مسألة رفع قدر كليات الحقوق مسألة شديدة
الإلحاح، فلا يعقل أن تكون كلية الحقوق من أقل الكليات التي تطلب مجموعا دراسيا
للالتحاق بصفوفها في كل دول العربية تقريبا، في نفس الوقت الذي تتبوأ فيه موقع القمة في الكثير من الدول
التي يطلق عليها دول العالم الأول.
أن العالم اليوم يحتاج إلي أشخاص قادرين علي استيعاب حركة تطوره السريعة المتلاحقة، في عالم اليوم اتفاقات التجارة الدولية التي قد تصل التعويضات فيها إلي مئات الملايين بل مليارات الدولارات، وتصبح فيه التكنولوجيا جزءا رئيسيا من حياتنا اليومية وما يصاحب ذلك من أسئلة هامة حول الخصوصية والجرائم الإلكترونية وحقوق الملكية الفكرية.
هناك أيضا الكثير من القضايا الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية
وحتى مسألة حماية البيئة والاتفاقات الدولية لحفظها، كل هذا ومن قبله ومن بعده
ومعه وظائف المحاماة التقليدية، لا يمكن أن يتناولها ويتصدي لها أنصاف الرجال،
وهذه كلمة في الختام ودعوة في النهاية. يا صناع القرار اهتموا بكليات الحقوق ومن
يتخرج منها قبل أن يطلق لهم العنان فهم إما ساعد بناء أو معول هدم.