بعد نصف قرن، إعادة قراءة ملاحظات باربرا توكمان عن الصين.
باربرا توكمان .. المؤرخة الأمريكية الشهيرة، المتفردة بين كل ما كتب عن
الحرب العالمية الأولي برائعتها The Guns of August (البنادق في اغسطس)، والذي يرجع سبب شهرته الكبيرة إلي العام 1962 في أوج أزمة
الصواريخ الكوبية، حينما وقف العالم علي حافة هاوية حرب نووية، حينها وزع الرئيس
الأمريكي "جون كينيدي" نسخا من الكتاب علي جميع مستشاريه، طالبا منهم
قراءته والاستفادة من جميع الأخطاء التي وقع فيها سياسيو تلك الحقبة التي أدت
لاندلاع الحرب العالمية الأولي، والعمل علي تفاديها.
غلاف كتاب
ملاحظات من الصين |
للمؤرخة الشهيرة العديد من الكتب الهامة منها ما هو مرتبط بالمنطقة العربية
مثل "الكتاب المقدس والسيف: إنجلترا وفلسطين من العصر البرونزي إلي
بلفور" ، والكتاب الذي سنعرض له اليوم Notes from Chinaأو (ملاحظات من الصين) يتميز بأن السيدة
توكمان قد زارت الصين خصيصا بعد انتظار دام لسنوات من أجل أن تكتب عنها. فكانت هي
أول من أمسكت بمنديلها لتزيل الأتربة والغبار التي غطت النظارة التي يري بها الغرب
عموما والولايات المتحدة خصوصا الصين.
باربرا وأمريكا والصين:
قبل هذا التاريخ بأربعين عاما بدأت باربرا رحلتها مع الشرق الأقصى.
وعندما ننظر خلال هذه العقود الأربعة، نجد العلاقات بين البلدين "أمريكا و الصين" قد شهدت تحولات كبيرة من حليفين في معركة واحدة ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية -كانت باربرا وقتها واحدة من الصحفيين الذين يقاتلون في معركتهم الصحفية الخاصة جدا بين كل الصحفيين الذين غطوا الحرب للحصول علي أخبار القتال في الصين- ، إلي طرفا علاقة ثلجية في عصر سماه العالم بالحرب الباردة.
أثناء ذلك ظلت باربرا من المهتمين بالصين رغم انحسار التركيز عنها، لذا فلقد كان منطقيا تماما بالنسبة لنا ما قالته في مقدمة الكتاب أنه ليس عن زيارة لمدة ستة أسابيع، إنما هو نتاج خبرتها الكلية.
للمفارقة فالكتاب يرتبط بتطور الأحداث علي الصعيد الدبلوماسي بشكل مذهل،
فلقد نشر هذا الكتاب في فبراير 1971 قبل شهرين فقط من رؤية العالم
فريق (البنج بونج) الأمريكي يصل إلي الصين كأول وفد يصل من الولايات المتحدة بدعوة
منذ عام 1949، ثم زيارة الرئيس الأمريكي
الراحل (ريتشارد نيكسون) للصين عام 1972 التي وصفت بأنها تماثل هبوط الإنسان علي سطح القمر، مما فتح الباب لزيارة توكمان نفسها بعد ذلك إلي الصين وكتابة
(ملاحظات من الصين)، باختصار سارت الأحداث لمصلحة السيدة باربرا، أو لو شئت فقل
لمصلحة التاريخ.
وصلت باربرا توكمان إلي بكين صيف عام 1972، في زيارة لم تقتصر علي بكين فحسب، فشملت كذلك عدة مدن، ومجموعة متنوعة من المستوطنات الريفية، لتكتب عن حياة الشعب الصيني باختلاف المهن والمناطق، وقدمت أول صورة للقارئ الأمريكي عن صين ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع السبعينيات.
بل إن الصورة التي ينقلها الكتاب ستمثل الإضافة الهامة والكبيرة لمن يقرأها حتى اليوم، فهي الصورة الأخيرة للصين الضعيفة، وتوثيق للحظات ما قبل صعود العملاق الصيني الذي بدأ عام ١٩٧٩، بعد ثمانية أعوام فقط من نشر (ملاحظات من الصين)، ليكون نبراسا لكل شعب أراد النهضة، فهذه كانت الصين ذات يوم.
قف منتصبا:
تحت هذا العنوان بدأت السيدة باربرا تكتب ملاحظاتها، باختصار إنها تصف لنا
صين هي النقيض للصين الحالية، فالفقر هو الأساس، الأمراض منتشرة، والفساد والكسب
غير المشروع شيء عادي. لكنها كذلك تنقل لنا محاولات للقضاء علي كل هذا، بالطبع
هناك فرق في الشعور بمحاولات الإصلاح تلك بين المدن الكبرى والريف.
من بين ما قرأت عن هذا في الكتاب. أعتقد ان الشيء الأكثر أهمية هو ما ذكرته
عن أن الطبقة العاملة في الصين قد "اكتشفت" شعورا بأن لها هدفا، بالثقة
في نفسها، بأنها قد أصبحت موضع اهتمام الدولة وليس ضحية من ضحايا المجتمع كما كان
الحال سابقا.
ولقد ضربت مثالا هاما عن ذلك التحول في مجال الزراعة، فبينما كانت المجاعة تسود في سابق الأوقات، نقلت لنا باربرا توكمان التجربة الناجحة للصين في دحض كل نظريات علماء الزراعة بأن الأراضي الصالحة للزراعة في الصين لا يمكن زيادتها، ولا يمكن زيادة العائد عن كل فدان أو وحدة زراعية.
يمكننا تخيل نتائج الاستسلام لتلك الأقوال عن عدم القدرة على استصلاح أراضي جديدة للزراعة في دولة بعدد سكان مثل الصين- . تقول باربرا
أن الصينيين فعلوا ذلك ليس باستخدام السحر، ببساطة فعلوها لأن الناس أحسوا بأن كل
ما يفعلونه سيستفيدون منه.
الناس:
ملحوظتها الثانية كانت عن الناس، الشعب، الذي وصفته بأنه (موضوع وهدف كل شعار سياسي في الصين)، وهو وفقا لتعريف الرئيس ماو يساند الثورة كله بلا استثناء، أو لنقل من 90 : 95%.
بكين في الصباح الباكر من أحد الأيام عام ١٩٧٨، معظم الناس يستقلون الدرجات، كانت بكين يطلق عليها مدينة الدرجات في ذلك الوقت، by Austrian photographer Herbert Stachelberger. |
إذا سألت عن البقية فهم (مواطنون) إما خصوم معادون للثورة، أعداء طبقيين، عناصر سيئة، كانت تلك هي نظرة الدولة حينذاك. نظرة وصفتها باربرا بأنها مثالية أو "نظرية" فالشعب كله متصوف من أجل الثورة الثقافية والعناصر السيئة تأخذ جنبا مستقلا. ولكن هناك اختلاف في الواقع العملي عن تلك النظرة.
وأعتقد أن نظرة توكمان للناس في المجتمع الصيني وقتها دقيقة إلي حد كبير،
فلقد عكست لنا حالة الارتباك والتداخل السائدة وقتها، فتقول مثلا إن العمال
والفلاحون والجنود تلقائيا يحتسبون ضمن الشعب، وفي نفس الوقت سيكون مطلوب من هؤلاء
أنفسهم التعلم من الشعب. علي النقيض منهم فهناك ملاك الأراضي أو البرجوازيين الخارجين
تلقائيا من صفوف جماهير الشعب، أو علي الأقل لا يتمتعون بالعضوية الكاملة فيه، إلا
إذا اثبتت مواقفهم أنهم قد تخلوا عن شعورهم بالتميز الطبقي.
الناس في الشارع في بكين في يوم عمل -الجماهير والمعني هنا في الصين يصلح وصفا وليس بالمعني الماركسي- تنتقل بلا هوادة في شوارع المدينة في طريقها للعمل علي الملايين من الدراجات الهوائية التي تغص بها الطرقات.
هم كذلك يملئون الحدائق العامة، القصر الإمبراطوري في المدينة المحرمة، وكذلك القصر الصيفي. يصطف الناس أيضا في متاجر الأطعمة المطبوخة لتناول وجبة في وعاء، إنهم يبدون مرتاحون تماما، فهم يتمتعون بالأمن الغذائي، بعمل مدفوع الأجر، ومعاش تقاعدي، كل هذه مصادر رائعة للقضاء علي التوتر، هذا يظهر علي وجوه الناس وطريقتهم، لم تكن الصين ابدا في عجلة من أمرها ولا تزال وتيرة العمل في المصنع سهلة. لا يوجد شعور بالضغط أو التوتر في الهواء.
لكن هذه لم تكن صورة الشعب الصيني كله، ولقد كانت باربرا دقيقة عندما ذكرت
هذا أيضا بأن الوضع في بكين بالتأكيد أفضل من باقي أنحاء البلاد، اختفي الشلل، كما
أنه لا يوجد متسولون، لم تري أحدا مصاب بقرحة مفتوحة، للأسف لا يزال هناك من يبصقون
في الطرقات خصوصا خارج بكين. وبشكل عام لقد قضت الصين علي الأفيون والأمراض
التناسلية، وفي النهاية تصل توكمان لنتيجة أن الشعب كان يواجه بعض الموانع في
التعبير عن مشاعره الإنسانية بين الرجال والنساء.
وفي الجيش أيضا:
لفتت توكمان نظر القراء أيضا للحياة الاجتماعية لضباط الجيش حينها، فلقد
سمح لها المسئولون بزيارة معسكراته، حيث
عرفت هناك أن الضابط تدفع له الدولة كي يزور عائلته في إجازته، لكنه لا يمكن أن
يعيش معهم إلا إذا قضى خمسة عشر عاما بسجل جيد، يجوز له حين ذلك التقدم بهذا
الطلب، وبالطبع فأن المؤرخة الأمريكية ابدت اندهاشها الشديد بسبب ما وصفته
(بالحياة الرهبانية) التي كانت من وجهة نظر الضابط الصيني المصاحب لها "بشيء
سعيد للغاية".
وتعرض باربرا توكمان
تكرار ذات الأمر في المدارس التي يتم تجميع فيها الحرفيين لمدة تصل إلي ستة أشهر،
لا يرون خلالها أزواجهن مطلقا.
علي ما يبدو فأن هذا كان اتجاه عام للحكومة الصينية في ذلك التوقيت بهدف تقليل المشاعر الطبيعية بين الناس، وتطبيق سياسة الطفل الواحد، والعمل على هدم مفهوم الأسرة الصغيرة، وجعل المجتمع الكبير هو الأسرة التي ينتمي إليها الفرد، في توجه مضاد لطبيعة البشر القابلة بسهولة أصلا للانتماء للأسرة وللمجتمع في ذات الوقت دون تضاد بينهما.
وبالتأكيد ظهرت النتائج السلبية لهذا وقد تلافت
الحكومات الصينية المتعاقبة منذ بداية حركة الإصلاح والانفتاح هذا الاتجاه مما
أعاد الحيوية للمجتمع الصيني، وكان آخر هذه الإصلاحات القرار الصادر عام 2015 بالسماح للأسر الصينية بإنجاب بطفل ثان.
الريف:
المزارع هو الصين الأبدية الخالدة، هكذا وصفت توكمان الفلاحين في الصين.
فلقد شاهدت منحوتات للفلاحين من عهد سلالة هان الحاكمة (206 ق.م: 220 ميلادية) في
متحف مقاطعة شيآن، وفي الخارج رأت بعد ألفي سنة الصينيين يزرعون بنفس الطريقة، في
الحقول لا يزالون ينحنون في مجموعات لزرع شتلات الرز وتطهير الأرض. إن قبعات القش
فوق رؤوس الفلاحين جزء لا يتجزأ من الصين تماما مثل محطات الوقود في أمريكا.
وتختلف طرق حرث الحقول في الشمال عن الجنوب، فشمالا يحرثونها ببغل أو ثور، وقد تكون البلدة محظوظة بجرار زراعي يسهل المهمة، بينما يعتمد الفلاحون في الجنوب علي جاموس الماء الرمادي، ذلك الحيوان الذي يسير نفس الخطوات لنفس المهمة منذ عشرين قرنا وأقصى ما وصل له الأمر من تطور محراث يعمل بمحرك يتحكم فيه الفلاح بمقبضين ويسير بين الوحل ليحرث الأرض.
حقل زراعي في قوانغدونغ، by Austrian photographer Herbert Stachelberger. |
لقد نقلت لنا توكمان خطوات الصين البطيئة
وقتها لإدخال الميكنة الزراعية لأقدم نشاط أمتهنها أبنائها، سيمر بعض الوقت لتتغير
طرق وأساليب الزراعة في الصين تماما.
لقد سبق ورأت لوحات من عهد سلالة تانغ (618 – 907 للميلاد)
بنفس التفاصيل لاستخدام الصينيين للحيوانات في الحقول، وحتى هؤلاء الثلاثة رجال
المتقاعدين الجالسين علي لوح يديرون عجلة ماء بأقدامهم يقضون وقتهم في تجاذب
الحديث وممارسة عمل كنوع من الرياضة المفيدة لأجسامهم في هذا العمر، هم أيضا
يؤثرون بشكل إيجابي في سير العمل.
المتغير والثابت:
زراعة الأشجار كالصفصاف، الجميز، والحور والسرو في صفوف محاطة غالبا بأحجار
صغيرة، هو الأمر المتغير في الصين، قدمت حملة زراعة الأشجار تلك الظل واللون
الأخضر للمدن، وهي تمتد أيضا حتى لأميال خارجها. بل أنهم زرعوها في كل مكان في
الحدائق، في الجامعات، حول المصانع، حتى المطارات والثكنات العسكرية، بعض المدن
ليس بها شارع دون ظل، لقد نجحت الحملة كما يقول الناس هنا في تخفيض درجات الحرارة
في المدن الشمالية ومدن نهر اليانغتسي بعد سنوات من ارتفاع درجات الحرارة بشدة.
وأما الثابت فهي تلك العربات ذات العجلتين وتجرها الحيوانات، بأعداد لا
نهاية لها تتحرك داخل وخارج المدن حتى بكين وشنغهاي، أنها تنقل الحصى، السماد،
الطوب، وكذلك المشروبات المعبأة، الجرار الفخارية، كما تنقل الكراسي وأكياس الحبوب
وأكياس الأسمدة وسلال الفحم وغيرها من المنتجات.
لم تكن تعلم باربرا ربما أن كل هذه الظواهر ستذهب ولن تظل ثابتة في حركة
تغيير تاريخية كانت الصين تتجهز لها، وكم كان مهما أن نري ونعرف الصين وهي في
سنواتها الأخيرة قبل أن تبدأ حركتها الإصلاحية التي شاهدها وعرفها العالم كله.
الكتاب الذي يقع في 112 صفحة، نجحت فيه باربرا توكمان أن تتجاوز
تصنيفها الأساسي كمؤرخة ولم تتأثر كذلك كونها صحفية، بل قدمت لنا صورة حية تنبض من
النواحي الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ولم يفتها تطعيم ذلك بمسحات تاريخية.