الأحدث

إساءة استخدام حق التقاضي والشكوي في القانون السعودي.. وحق المتضرر في طلب التعويض

تعد القوانين هي الأساس التي تنظم حركة سير المجتمعات، بتنظيمها لحقوق السلطة، والفرد، والجماعات، وواجباتهم، كل قبل الآخر.

صورة لقاعة محكمة سعودية، صورة من وزارة العدل السعودية. 


والأصل أن لكل فرد استخدام حقوقه المقررة له شرعا وقانونا، ومن أخص تلك الحقوق وأجلها، حقه في التقاضي، الذي يبتغي به دفع ظلم ناله، أو جلب منفعة فاتته وكان له حق فيها.


لكن قد يحدث أحيانا أن يساء استخدام الحقوق من قبل أصحابها، فيحولونها إلي آداة للانتقام أو لخلق منازعات وفتن لا تنتهي، وقد انتبهت عديد التشريعات وكثير من الفقهاء لتلك الحالة في صدد استخدام حق التقاضي، فظهر ما يعرف باسم (إساءة استخدام حق التقاضي).


حق التقاضي في القانون السعودي:


لقد حرصت المملكة العربية السعودية في نظامها الأساسي على كفالة حق التقاضي لرعايها ومواطنيها والمقيمين على أرضها، فنص النظام الأساسي للحكم الصادر بالأمر ملكي رقم أ/90 بتاريخ 27 / 8 / 1412ه‍‍، في مادته السابعة والأربعون على:


((حق التقاضي مكفول بالتساوي للمواطنين والمقيمين في المملكة ، ويبين النظام الإجراءات اللازمة لذلك)).


إذن فالتقاضي حق.. لكن لكل حق قيد عليه ينظمه ويهذبه، ويجعله ملائما للاستخدام النافع لصاحبه وللمجتمع، وهذا ما ظهر سريعا في المادة الثامنة والأربعون من النظام الأساسي والتي تنص على:


((تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية ، وفقا لما دل عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة)).


فكان القيد الأول والأبرز والأهم والأشرف، هو تقييد النظام القضائي كله بالالتزام بأحكام شريعتنا الإسلامية الغراء.


ومن أهم مبادئ شريعة الإسلام التي تعلمناها حتى من أباءنا وأجدادنا منذ صغرنا، ثم صقلتها دراستنا الشرعية والقانونية، أنه لا يجوز لصاحب الحق إساءة استعماله أو التعدي فيه.


والأمثلة على ذلك أوسع وأكثر من أن تذكر، لكن لنضرب بعض الأمثلة على هذا، فالإسلام يعطي للشخص الحق في أن يوصي بجزء من تركته لكنه جعل ذلك في حدود الثلث لا يجاوزه، والإسلام أعطي للشخص الحق في تأديب ابنه لكن بالكلمة أو الضرب الخفيف الذي لا يؤذي الجسد ولا النفس، والإسلام أعطي للشخص الحق في أن يعمل، لكنه حرم عليه بعض أنواع العمل من الأصل، وبعض أنواع العمل إذا شابها محاذير شرعية، والإسلام اعطي للناس حق الزواج لكنه منعهم من الزنا، وهكذا. 


ويقول الدكتور على بركات، أستاذ قانون المرافعات بكلية الحقوق بجامعة بني سويف في مصر، والأستاذ المشارك بقسم القانون الخاص بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الملك سعود في السعودية، بكتابه (الوسيط في شرح نظام القضاء السعودي الجديد، رقم ٧٨ لسنة ١٤٢٨ ه‍‍، الطبعة الأولى ١٤٣٣ه‍‍ / ٢٠١٢م، مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، صفحة ٤٨).


يترتب على اعتبار حق اللجوء إلى القضاء حقا من الحقوق العامة أن الشخص لا يسأل عما يترتب على هذا الحق من ضرر للآخرين، إلا إذا تعسف أو أساء استخدامه، وهذا يعني أن مجرد الفشل في الدعوى، لا يعتبر في حد ذاته خطأ يوجب التعويض طالما أن المدعى لم يتعسف في استخدام حق التقاضي.



واستشهد الدكتور بركات في هامش نفس الصفحة بحكم للدائرة المدنية بمحكمة النقض المصرية صادر في ١٤ / ٨ / ١٩٦٥، منشور بمجموعة أحكام النقض المدني السنة ١٦، صفحة ١٧٨، جاء فيه أن حق اللجوء إلى القضاء مقيد بوجود مصلحة جدية ومشروعة، فإذا تبين أن المدعى كان مبطلا في دعواه، ولم يقصد بها إلا مضارة خصمه والنكاية به، فإنه لا يكون قد باشر حقا مقررا في النظام بل يكون عملا خاطئا يجيز الحكم عليه بالتعويض.


إساءة استخدام حق التقاضي في القانون السعودي:

مبني المحكمة العامة بالعاصمة السعودية الرياض. 


وباستقراء القوانين واللوائح السعودية نستطيع أن نجد أن المشرع السعودي قد انتبه لتلك الحالة التي يتحول فيها الشخص لاستخدام حقه في التقاضي لا لجلب منفعة أو دفع ضرر، بل للإساءة للناس، بإزعاجهم، وتشويه سمعتهم بجلبهم إلي المحاكم مرة تلو الأخرى.


فنص النظام واللوائح التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية، الباب الأول، أحكام عامة، المادة الثالثة، البند ٢. ((هذا النص في النظام وليس في اللائحة)).


((إن ظهر للمحكمة أن الدعوى صورية أو كيدية، وجب عليها رفضها، ولها الحكم على من يثبت عليه ذلك بتعذير)).


وتابعت اللائحة في النص ٣ / ٥ بنصها الذي منح للمتضررين من تلك الأفعال الحق في التعويض بنصها:

((للمتضرر في الدعاوى الصورية أو الدعاوى الكيدية المطالبة بالتعويض عما لحقه من ضرر بطلب عارض، أو بدعوى مستقلة لدى الدائرة نفسها، ويخضع الحكم لطرق الاعتراض)).


ونصت اللائحة أيضا في ٦ / ٣:

((يكون الحكم بالتعزير لكيدية الدعوى، أو صوريتها مع الحكم برفض الدعوى -إن امكن- ويخضع لطرق الاعتراض)).


كما نص نظام المرافعات الشرعية في الفصل الثالث منه بعنوان (الطلبات العارضة)، المادة الرابعة والثمانون/ ب، على:

((للمدعى أن يقدم من الطلبات العارضة ما يأتي:

ب-طلب الحكم له بتعويض عن ضرر لحقه من الدعوى الأصلية، أو من إجراء فيها)).


وهذا النص يفتح الباب على مصراعيه أمام كل مدعى عليه يشعر بأن الدعوى قد ألحقت به الضرر بشكل لا حق للمدعى فيه، أن يطلب التعويض عن ذلك الضرر، بعد أن يشرحه للقاضي ويثبته له.


شروط طلب التعويض عن إساءة استخدام حق التقاضي في القانون السعودي:


من استقراء هذه النصوص من اللوائح التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية السعودي، يمكن أن نجمل ما يعتبر شروط طلب التعويض عن إساءة استخدام حق التقاضي في القانون السعودي ، فيما يلي:


أولا: أن تصدر المحكمة حكما برفض الدعوى بسبب صوريتها أو كيديتها.
ثانيا: وهذا ليس شرطا أساسيا، بمعني أنه يجوز طلب التعويض بدون حدوثه: أن تحكم المحكنة على رافع الدعوى الصورية أو الكيدية بالتعذير.
ثالثا: أن يطلب المتضرر في الدعوى التعويض، ويجوز أن يكون ذلك بطلب عارض أثناء نظر القضية، أو برفع دعوى مستقلة بعد الحكم فيها.
رابعا: يجب أن يتم طلب التعويض أمام نفس الدائرة التى نظرت أو لا تزال تنظر القضية الأصلية.


الحد من الدعاوى الباطلة والشكاوي الكيدية:


هذا ويمكن أن نعتبر أن القواعد المحددة في اللوائح التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية السعودي قد جاءت كثمرة لقرار سابق أصدره مجلس الوزراء السعودي برقم ٩٤ بتاريخ ٢٥ / ٤ / ١٤٠٦ه‍‍.

محكمة سعودية، صورة من صحيفة عكاظ


كامت فلسفة إصدار هذا القرار في حينها تتمثل أساسا في الحد من الدعاوى الباطلة والشكاوي الكيدية، وبرغم أن اللوائح التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية السعودي، هي المعمول بها حاليا، كما أن اللوائح تسبق القرارات في ترتيب القواعد القانونية، إلا أنه من الأهمية ذكر أهم قواعد ذلك القرار، وذلك لنتبين أن القوانين والأنظمة السعودية، أدركت ومنذ عقود خطورة استعمال الحق في الشكوى أو التقاضي.


إذ نص هذا القرار في مادته الثانية على:

((من قدم شكوى في قضية منتهية بحكم أو قرار يعلمه، وأخفاه في شكواه، فيجوز إحالته للمحكمة المختصة لتقرير تعذيره)).


وفي المادة الثالثة على:

((من اعترض على حكم أو قرار نهائي، مكتسب القطعية بقناعة أو تدقيق من جهات الاختصاص، وثبت لدى المحكمة أنه لم يقدم وقائع جديدة، تستوجب إعادة النظر في الحكم، أو القرار ، فيؤخذ التعهد اللازم عليه في المرة الأولى، بعدم الاعتراض على الحكم أو القرار، فإذا تكرر منه ذلك، يحال إلي المحكمة المختصة للنظر في تعذيره)).


كما أعطي القرار للمتضرر من الشكوى أو الدعوى الكيدية الحق في التعويض عما لحقه من أضرار بسببها، فنص على:

((من تقدم بدعوى خاصة وثبت للمحكمة كذب المدعى في دعواه، فللقاضي أن ينظر في تعزيره، وللمدعى عليه المطالبة بالتعويض عما لحقه من ضرر بسبب هذه الدعوى)).


أمثلة على إساءة استخدام حق التقاضي والشكوى في القانون السعودي:


نتعدد وتختلف الأمثلة على إساءة استخدام حق التقاضي والشكوى في القانون السعودي.. ونضع هنا بين أيديكم بعضا من تلك الصور، ونؤكد أنها مجرد أمثلة، وقد تحدث صور أخرى لإساءة استخدام حق التقاضي والشكوى ويمكن حينها اكتشافها من طبيعة الدعوى أو حتى من حكم المحكمة الذي يقضي بصورية أو كيدية الدعوى.


ومن تلك الأمثلة:

  • رفع دعوى من الدائن ضد المدين قبل موعد استحقاق الدين، وهنا الكيدية واضحة، لأن موعد سداد الدين لم يحل بعد، وبالتالي لا محل للشكوى أصلا لأن المدين لم يماطل أو يتأخر في السداد.
  • رفع دعوى للمطالبة بحق سبق وأن حصل عليه صاحبه أو تصالح مع المدعى عليه فيه تصالحا صحيحا، فهنا لا حق لرافع الدعوى أصلا لكي يطالب به وتعتبر دعواه كيدية.


إحالة الشكاوي الكيدية إلى القضاء:


هذا، وقد يحدث أحيانا أن يتقدم بعض الناس من معتادي إثارة المشاكل، والتي تحتوي صدورهم على الحقد والضغينة بشكاوي ضد جيرانهم مثلا أو بعض الناس في قريتهم أو مدينتهم.


ترى هؤلاء يقومون ببعث شكاوي كيدية إلي وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان وهم مطمئنين أنهم فقط سيزعجون من سيتقدمون في حقهم بالشكوي ولن ينالهم هم أذي، لدرجة أن بعضهم احترف الشكاوي، وأصبح يتقدم بها ضد الكثيرين، سواء ذكر اسمه في الشكوى أو لم يذكره.


وللحد من تلك الظاهرة السلبية، أصدر وزير الداخلية السعودي القرار رقم 16/86635 في 17/10/1426هـ ، المبني على الأمر السامي البرقي رقم 9303/م ب في 25/7/1426هـ ، والذي بمقتضاه ستقوم وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان في السعودية بإحالة جميع الشكاوى التي ترى الجهات الحكومية أو الإمارة أنها كيدية إلى ,هيئة التحقيق والإدعاء العام للتحقيق فيها وفقاً للنظام ورفع الدعوى أمام ,المحكمة المختصة للنظر فيها.


وبهذه الطريقة، فإن من سيقوم بإرسال شكوى كيدية، ستتم إحالته للقضاء لتعذيره، وقد يحكم عليه أيضا بالتعويض لما تسبب فيه من إزعاج وإساءة لسمعة المشكو بحقه.


الاستنتاج النهائي:

وزارة العدل السعودية. 


من كل ما سبق، يتضح أن المشرع السعودي أستلهم من الشريعة الإسلامية إعطاء الحق في التقاضي لكل مواطن أو مقيم على أرض المملكة، كما أستلهم من الشريعة ذاتها أن يلتزم من يستخدم الحق في التقاضي باستعماله في تحقيق مصلحة مشروعة له أو دفع ضرر أصابه أو يحيط به.


وأعطي القانون السعودي للقاضي، وللمدعي عليه الحق في دفع إساءة استخدام حق التقاضي ، وذلك بالحكم بالتعزير ، وبطلب التعويض. وذلك إعمالا للقاعدة الشرعية (لا ضرر ولا ضرار)، والقاعدة الشرعية (درء المفاسد مقدم على جلب المنافع)، والقاعدة الشرعية (الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف).


ويلاحظ أن للقاضي السعودي سلطة تقديرية واسعة في تقدير الدعاوى الكيدية أو الصورية، وذلك ليتمكن من دفع الضرر عن المدعى عليه إن تأكد أن الدعوى ما رفعت إلا للكيد منه.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-