في حين أن دوائر صنع القرار السياسي في واشنطن يبدو عليها أنها دخلت في جدل لا نهائي حول (النوايا النووية) لإيران ومستوى خبراتها والتقدم الذي تحققه، فإن طهران تواصل الضغط وبلا رحمة.
ففي ١٠ أكتوبر ، أعلن محمد إسلامي ، الرئيس المعين حديثًا لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، أن بلاده أنتجت أكثر من ١٢٠ كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة ٢٠ بالمائة.
زيادة دراماتيكية:
حسابيا، فلو صدق محمد إسلامي في تصريحه، فإن هذا الرقم يشكل (زيادة دراماتيكية) مقارنة مع ٨٤ كجم، كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتحدث عنهم منذ شهر واحد فقط.
وإذا ما عدنا إلي الوراء قليلا، سنجد أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تتخذ من العاصمة النمساوية فيينا مقرا لها، كانت تعتمد حوالي ٦٣ كيلوغراماً إجمالي ما تملكه إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة ٢٠ بالمائة قبل ثلاثة أشهر.
يعني ذلك أن الإيرانيين خصبوا في ثلاثة شهر حوالى نفس الكمية التي كانوا يمتلكونها طوال المدة الماضية بأكملها.
وبرر محمد إسلامي الرقم الجديد بالقول إنه مستوى الإنتاج الذي طالب به البرلمان الإيراني في قانون أقره العام الماضي ، مشيرًا إلى: "نحن متقدمون عن الموعد المحدد وفقا للجدول الزمني".
الشيطان يكمن في التفاصيل:
يقال أن الفيلسوف الألماني الشهير (نيتشه) هو صاحب مقولة "الشيطان يكمن في التفاصيل"، ويقال أن أصلها إنجليزي The devil is in the detail.
وبعيدا عن النزاع الألماني-الإنجليزي عن أصل تلك العبارة، فإنها تصلح وبشدة لوصف ما حدث عندما تحدث محمد إسلامي رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، إذ ضاعت في التقارير التي تناولت تصريحاته، بعض التفاصيل البسيطة لكنها تفاصيل غاية في الخطورة.
ذلك لأن هذا المستوى من الإنتاج يقترب بشكل مثير من الرقم السحري البالغ ٢٠٠ كجم ، وهو افضل ما حققته إيران من حيث كمية اليورانيوم المخصب بنسبة ٢٠ بالمائة التي تمتلكها.
لقد تنازلت إيران عند عقدها الاتفاق النووي مع القوى الكبرى، ووافقت علي أن تبيع مخزونها من اليورانيوم، وتحافظ علي نسبة تخصيب لا تزيد عن ٣،٦٧٪.
لكنها اليوم تعود للاقتراب من أفضل مستوى وصلت إليه سابقا، وما يخشاه الغرب، أن تواصل عملها وترفع نسبة التخصيب في اليورانيوم إلي ٩٠٪، حينها ستكون إيران قد امتلكت كمية كبيرة من اليورانيوم المخصب، تمكنها من صناع قنبلة نووية واحدة علي الأقل.
حيرة علمية:
أما الأمر المحير بالنسبة لغير العلماء والعاملين في المجال النووي، أن كميات اليورانيوم التي تخصبها إيران تأتي أساسا من (سادس فلوريد اليورانيوم).
من صفات سادس فلوريد اليورانيوم، أنه ينتج حين يتم تسخين أكسيد اليورانيوم، ويأخذ صورة الغاز، وهنا تبدأ عملية تخصيب اليورانيوم عن مستواه الطبيعي، عبر زيادة تركيزه.
لذا فإننا عندما نقول ١٥٥ كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة ٢٠٪، فهذا نتاج ٢٠٠ كجم في الأصل، لكن بعد إزالة ذرات الفلور، وتحويل أكسيد اليورانيوم إلي غاز سادس فلوريد اليورانيوم، إذ سيصبح أقل من حيث الوزن بالتأكيد.
لبضع سنوات متتالية، كان التخصيب بنسبة ٢٠ في المائة هو الرقم الحاسم الذي كانت إيران تضغط من أجل الوصول إليه.
علي أرض الواقع، كان كل ما يريده الإيرانيين لفترات طويلة هو الوصول بالتخصيب لنسبة ١٩،٧٥٪، لأن ٢٠ في المائة هو المستوى الذي يُصنف عنده اليورانيوم المخصب على أنه "يورانيوم عالي التخصيب".
نظريا.. عمليا :
على الرغم من أن المرء يحتاج حقًا إلى اليورانيوم المخصب بنسبة ٩٠ بالمائة من اليورانيوم ٢٣٥ لصنع قنبلة نووية، إلا أن اليورانيوم المخصب بنسبة ٢٠ بالمائة هو نظريًا المستوى الذي يمكنك من خلاله إحداث انفجار نووي.
لقد جرب الجيش الأمريكي قبل ذلك تفجير قنبلة نووية بيورانيوم مخصب بنسبة ٢٠٪، وما حدث أنها انفجرت نوويا بالفعل.
لكن كل ذلك ما أعلنته إيران، البعض يقول أن الإيرانيين ذهبوا أبعد كثيرا مما قالوه، مع تخصيب اليورانيوم بنسبة وصلت حتى ٦٠٪، وعندما تصل دولة ما إلي تلك النقطة، فلا يصبح أمامها إلا مقدار قليل من تشغيل أجهزة الطرد المركزي الدوارة التي تفصل نظائر اليورانيوم الغازية ، للوصول إلى ٩٠ بالمائة ، النسبة التي تنتج القنبلة النووية.
أما إذا طلبت عزيزي القارئ معرفة كم من الوقت تحتاجه الدولة التي تصل إلي نسبة٦٠٪ حتى تبلغ مستوى إنتاج القنبلة النووية.. فالإجابة هي مجرد أسابيع قليلة من العمل.
بموجب الاتفاق النووي الإيراني لعام ٢٠١٥ المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) -لم يعد فاعلا عقب إنسحاب الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاقية-، بموجب هذا الاتفاق كان محظورا علي إيران إنتاج اليورانيوم أو حتى البحث عنه إلا في ظروف محدودة للغاية وبشروط صعبة ومتفق عليها.
حظر الاتفاق كذلك قيام إيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة ٢٠ بالمائة حتى عام ٢٠٣٠.
القلق:
هناك أخبار أخرى ما زالت غير معلنة، لكنها مثيرة للقلق.
فمن الناحية الواقعية، يحتاج التخصيب باستخدام أجهزة الطرد المركزي بشكل أساسي إلى التحلي بصبر كبير.
تظل المئات من أجهزة الطرد المركزي تعمل وتدور بشكل مستمر لأشهر متتالية، مما يزيد بشكل تدريجي من ثراء اليورانيوم ٢٣٥ في المزيج، وتزيد نسبة تخصيب اليورانيوم.
معظم العمل وأصعبه يكون في نقطة البداية، حينما يتم رفع نسبة تخصيب اليورانيوم ٢٣٥ من مستوى ٠،٧٪ وهي النسبة الموجودة في الطبيعة، إلي أن تصل لنسبة ٥٪.
الدكتور عبد القدير خان، يعرف في باكستان بأبو القنبلة النووية، ويعرف عالميا بصاحب القنبلة النووية المسلمة. |
الآلات التي تستخدمها إيران في هذه المرحلة الأولى من التخصيب معروفة باسم IR-1s ، وهي نسخة إيرانية من أجهزة الطرد المركزي الباكستانية P-1، التي حصلت عليها عن طريق العالم النووي الباكستاني الدكتور عبد القدير خان، الملقب في بلاده بأبو القنبلة النووية، إذ قاد جهد بلاده الذي انتهي بامتلاك السلاح النووي، ردا علي امتلاك الهند له -توفي الدكتور خان في ١٠ أكتوبر متأثرا باصابته بفيروس كورونا المستجد COVID-19.
مؤخرا، استطاعت إيران من تطوير أجهزة الطرد المركزية الخاصة بها، وزادت من قدراتها علي التخصيب -علي ما يبدو زاد التطوير الإيراني قدرات أجهزتها بمقدار الربع-، إنها نسبة كافية للغاية لتعزيز قدرات إيران علي تخصيب اليورانيوم.
وبرغم وجود بعض أنواع أجهزة الطرد المركزي المختلفة الطراز، فإن ما تمتلكه إيران من أجهزة IR-1 أكثر من أي نوع آخر من أجهزة الطرد المركزي. ولاتزال الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحاول معرفة ما هو بالضبط التعديل الذي أجرته إيران علي هذه الأجهزة.
فقرات من الغموض:
تضمن تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في سبتمبر الماضي، بعض الفقرات الغامضة حول تحويل إيران بعض اليورانيوم إلى صفائح وقود اليورانيوم السليكونية، وذلك لاستخدامها المحتمل في مفاعل للأبحاث.
إن الجدل الذي ثار عقب صدور التقرير حول ما إذا كانت صفائح الوقود تلك ستعمل ام لا، غاب عنه نقطة أساسية.
إنه ينبغي أولا للوصول إلى شكل السيليسيد ، ان يتم تحويل اليورانيوم إلى شكل معدني، ومعني أن تصل إيران أصلا لانتاج تلك الألواح سواء عملت بشكل جيد ام لا، انها قد تجاوزت أصلا "خطا أحمر" كانت الدول المعنية بمراقبة طموحاتها النووية قد حددته لها من قبل.
ببساطة، إن الدولة التي تستطيع تحويل اليورانيوم إلي شكل معدني، تحصل علي خبرة هامة في فن هام من الفنون النووية، إنها تتعلم كيف تشكلها علي شكل "الجريب فروت"، إنها خطوة لازمة لانتاج السلاح النووي.
إيران في الأصل لديها "العلم النظري" حول كيفية القيام بذلك، إذ حصلت منذ عدة سنوات علي وثيقة مكونة من ١٥ صفحة، أرسلتها لها باكستان، لكن الإيرانيين ينفون أن يكونوا قد وضعوها موضع التنفيذ الفعلي.
مصدر آخر للقلق علي هذا الصعيد، ظهر دليل آخر علي أن إيران تستطيع تشكيل اليورانيوم في صورة معدنية، عندما عثرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية علي قرص من اليورانيوم الدائري به ثقب، رغم أن إيران لم تعترف بوجوده من الأصل.
هذا القرص الذي قيل أنه بعرض بضعة بوصات، قد يكون نتيجة لتجارب علي إنتاج "البادئ النيوتروني" ، الذي تبدأ منه عملية الانشطار النووي، أول مراحل اطلاق انفجار السلاح النووي، أو بمعني آخر أن إيران بدات تجارب علي مكونات السلاح نفسه بالفعل.
وإذا اردنا توضيح أكثر في سطور قليلة بعيدا عن التعقيدات الفنية، فإن بادئ القنبلة النووية “initiator” هو عبارة عن تفاعل متسلسل خارج عن السيطرة ولا يمكن التحكم فيه، يتم تحقيقه بواسطة نيوترون يضرب ذرة يورانيوم ٢٣٥.
يؤدي ذلك إلى انقسام ذرة اليورانيوم ، مع إطلاق الطاقة والمزيد من النيوترونات. في الواقع يتم تحفيز هذا التفاعل المتسلسل عن طريق ضغط سريع جدًا لليورانيوم ، يتم تحقيقه بواسطة المتفجرات التقليدية التي تكون ملحقة بالقنبلة النووية، ومع انفجارها يقوم البادئ بحقن دفعة من النيوترونات في وقت حرج تقوم بضرب ذرة اليورانيوم، وحينها يحدث الانفجار النووي.
القنبلة النووية الإيرانية:
يُعتقد أن تصميم القنبلة الإيرانية هو تعديل للتصميم الباكستاني لقنبلتها النووية، والذي وصل للإيرانيين عن طريق الصين.
في هذا التصميم، يتم وضع البادئ المولّد للنيوترونات في جوف صغير وسط القنبلة بالضبط، ويكون حجمه أقل من بوصة واحدة، وعلي جانبيه يوجد اليورانيوم عالي التخصيب.
بين عامي ١٩٨٣ و ١٩٨٤. جرب الدكتور عبد القدير خان فيما يعرف باسم (التفجير البارد). وهو نوع أقل من التفجيرات النووية الفعلية، وذلك باستخدام التنجستن بدلاً من اليورانيوم في القنبلة.
حينها لم يتمكن هو وفريقه من تفسير البيانات التي جمعوها ولذا طلب من الصينيين المساعدة.
بعد شهر، وفي لقاءه بهم بكين ، أخبر الخبراء الصينيون، الدكتور خان أنه إذا كان قد قام باستخدام يورانيوم عالي التخصيب ، لكان هناك انفجار نووي. كان هذا يعني بشكل أو بآخر أن البادئ قد عمل بشكل ناجح كما هو مطلوب منه.
وبرغم رحيل الدكتور خان الذي يعد أسطورة وطنية باكستانية، إلا أن تأثيره لا يزال باقيا.
ففي مذكراته التي غطي فيها أربعين عاما من حياته، والتي أعطاها لي في نسخ إلكترونية، قال خان أن تعاونه مع الإيرانيين كان حقيقة واقعة، دعمتها القيادة السياسية الباكستانية ، وشجعه عليه كبار الضباط العسكريين.
وقد أكد هذه المعلومات، ما أفادت به جماعة معارضة إيرانية، قالت أن الرئيس الجديد لمنظمة الطاقة الذرية، محمد إسلامي ، وهو مهندس مدني في الأصل، كان حلقة وصل رئيسية مع خان في التسعينيات.
كتب الدكتور عبد القدير خان في يومياته عدة إشاراة عن شخص لقبه ب(المهندس)، وأذكر أنني سألت خان عن هذا الشخص ذات مرة، لكنه لم يقدم لي إجابة مناسبة، ولعله يكون نفسه هو محمد إسلامي.
---------------------------------
ترجمة المعرفة للدراسات لتقرير بقلم سايمون هندرسون، وهو زميل بيكر ومدير برنامج برنشتاين حول الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.
التقرير الأصلى نشر في صحيفة ذا هيل الأمريكية.