هذه الأيام، التي نحيا فيها في درجات حرارة شديدة الارتفاع خصوصا في اوقات النهار، والتي بلغت حدتها أن أشعلت البحر المتوسط، مع انتشار الحرائق في عدد من الدول المطلة علي شواطيء ما يعتبره الكثيرون أهم بحار العالم.
وحتى في البلاد والمناطق التي لم تشهد تلك الحرائق، فإن ارتفاع درجات الحرارة هو أحد المخاطر التي لا يغض النظر عنها بالنسبة لحياة بني البشر، في البيئة التي يعيشون فيها، وحتى في مهنهم التي يعملون بها.
عامل مصاب باجهاد حراري |
إذ تقل بمرور الوقت عدد الأيام التي يعيش فيها البشر في درجة الحرارة المريحة بالنسبة لهم (تبدأ من ٦٣ فهرنهايت = ١٧،٢٢ مئوية، وتصل إلي ٨٧ فهرنهايت = ٣٠،٥٦ مئوية). ويقل تحمل البشر مع تقدم أعمارهم للعيش في درجات حرارة خارج هذا النطاق.
ومن ضمن أبرز مخاطر ارتفاع درجات الحرارة، وموجات الحر الشديدة، هو "الإجهاد أو الإنهاك الحراري" والذي قد يقود في نهاية المطاف للوفاة.
اين وكيف يحدث:
منذ بدء الخليقة، عرف البشر أن الحرارة من مخاطر الطبيعة، ورغم فوائدها، عرفنا أن ارتفاع درجتها له تأثيرات سلبية للغاية علي أجسامنا وصحتنا، ومن الأمراض المرتبطة بارتفاع درجة الحرارة، عرف العلماء "الإجهاد الحراري".
في الغالبية الكاسحة من الحالات، لا يحدث الإجهاد الحراري إلا في مواقع العمل أو في الشوارع عندما ترتفع درجات الحرارة، فقليلة هي الحالات التي يصاب فيها شخص بإجهاد حراري، وهو في منزله حيث جهاز التكييف أو حتى المروحة حتى وإن كانت قديمة.
لذا فإن العمال أو أصحاب أي وظيفة أو مهنة، يعمل أصحابها في بيئات ذات حرارة شديدة، وخصوصا كبار السن ممن يبلغون ٦٥ عاما أو اكثر، أو أصحاب الامراض المزمنة كالقلب وارتفاع ضغط الدم، وكالعادة المصابين بالسمنة، يعتبرون هم الفئات الأساسية المعرضة للإجهاد أو الإنهاك الحراري.
وذلك يكون خصوصا في الفترات التي ترتفع فيها درجات الرطوبة في الجو (تعتبر الرطوبة التي تزيد عن ٥٠٪ جوا مثاليا للإصابة بالإجهاد الحراري).
كما تلعب الملابس التي يرتديها العمال (سواء من حيث اللون -يفضل دوما ارتداء اللون الأبيض حين ارتفاع الحرارة- ونوعية هذه الملابس)، دورا هاما في مسألة الإصابة بإجهاد حراري.
بعض السلوكيات تزيد من خطر إصابة أصحابها بالإجهاد الحراري مثل شرب المشروبات الكحولية، أو تناول الادوية التي تمنع الجسم من تنظيم درجة حرارته مثل أدوية منع التعرق.
أما من هم علي رأس قائمة المحتمل إصابتهم بالإجهاد الحراري، فهم العمال الذين يتعرضون لدرجات حرارة عالية طوال العام بطبيعة وظائفهم، ومنهم علي سبيل المثال لا الحصر: (عمال المخابز، الحدادين، عمال مصانع الحديد والصلب، العاملين تحت الشمس في الهواء الطلق، رجال الإطفاء، الفلاحون، عمال البناء، عمال المناجم، عمال غرف الغلايات، عمال المصانع، الطباخين في المطاعم التجارية ومطاعم الفنادق، ....إلخ).
عامل في أحد الأفران، تعتبر مهنته من أكثر المهن التي قد تؤدي للإصابة بالإجهاد الحراري |
لكن لنفهم... ماذا يعني الإجهاد الحراري أو الإنهاك الحراري بالضبط؟..
في هذه البيئات التي تحدثنا عنها، يبدأ الإجهاد الحراري، عندما لا يستطيع الجسد البشري أن يتخلص من الحرارة الزائدة عن الحرارة الطبيعية للجسم، (حرارة الجسم الطبيعية ٩٨،٦ درجة فهرنهايت "٣٧ درجة مئوية" تقريبًا).
يحدث ذلك لان نظام تبريد الجسد الطبيعي يكون تحت ضغط مستمر بين ارتفاع الحرارة الخارجية، والعمل الذي يرفع درجة حرارة الجسد أصلا، ومحاولاته هو للتبريد عبر زيادة تدفق الدم إلي سطح الجلد وإنزال العرق، فالدم ينقل الحرارة من داخل الجسم للخارج عندما ينتقل لسطح الجلد، ويزيد العرق من تبريد الجسد.
لكنه وعندما يصل لنقطة الانهيار، التي لا يستطيع فيها مجاراة ارتفاع حرارة الجسم، وتزداد كمية الحرارة التي يتعرض لها الجسم من الخارج عن ما يمكنه تحمله، حينها سيصبح الجسد مصابا بالإجهاد الحراري، وترتفع درجة حرارته الأساسية.
سيجد الشخص نفسه، وقد بدات يديه في التعرق، والشعور بالدوخة، وبالنسبة لأصحاب المهن الذين يرتدون نظارات سلامة لأعينهم، سيجدونها قد غطيت بالضباب.
لكن هذا لا يعني أنه من المشترط أن تكون عاملا او صاحب وظيفة دائمة في هذه الظروف لتصاب بالإجهاد الحراري، فحتى الاشخاص العاديين الذين قد يضطرون للقيام بمجهود بدني شاق ولو ليوم واحد في تلك البيئة، أو من يصاب بحرق نتيجة تلامسه بجسم ساخن، سيكونون هم أيضا معرضين لخطر الإجهاد أو الإنهاك الحراري.
ووفقا لدراسة نشرتها وحدة أبحاث الصحة العامة والبيئية (PEHRU)، في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي، في المملكة المتحدة عام ٢٠٠٨، فإن الأشخاص الذين يعانون من مرض أو اضطراب نفسي، يعتبرون أيضا من الحساسين والمعرضين للأصابة بالإجهاد الحراري.
يجب الإنتباه للأطفال كذلك، فهم من أبرز المعرضين لخطر الإجهاد الحراري، خصوصا اذا تركوا للعب في الشوارع والطرقات في أيام الصيف الحارة.
رغم ذلك كله، فعليك الإنتباه، فحتى الشباب الأصحاء يمكن أن تستسلم أجسادهم أمام الإجهاد الحراري، إذا شاركوا في أنشطة بدنية شاقة أثناء الطقس الحار، او ساروا لوقت طويل في الشمس، وفي هذه الحالة تزداد الخطورة، لأن الشخص لا يفكر في أنه قد تعرض لإجهاد حراري.
أعراض الإجهاد الحراري:
بالطبع، يوجد علامات مميزة للإجهاد الحراري، تميز الشخص الذي اصيب به، وهي تختلف عن حالة "ضربة الشمس"، في كونها تستغرق بعض الوقت، ولن تكون مؤثرة بشكل قوي يهدد الحياة فورا.
لذا فإذا كنت من الرجال الشرفاء أو السيدات الكريمات العاملين والعاملات في بيئة العمل تلك، كن حريصا دوما علي متابعة هذه الأعراض عليك، وقم بزيارة الطبيب إذا وجدتها تزيد، ولا تقم بتجاهلها، لأن معظم من يصابون بالإجهاد الحراري، شعروا بأعراضه لكنهم تجاهلوها، ومن أبرزها:
رسم لأهم أعراض الإجهاد الحراري، من تعرق وتشنجات وارتفاع النبض والشعور بالدوران |
- ارتفاع درجة الحرارة.
- التعرق الغزير.
- ارتفاع سرعة نبض قلب الإنسان، ما يشكل ضغطا إضافيا علي الجسم.
- الإعياء.
- الغثيان.
- العصبية.
- انخفاض ضغط الدم عند الوقوف.
- الصداع.
- بعض الحالات تفقد الرغبة في شرب المياه رغم ما تمر به من معاناة.
- فقدان التركيز.
- طفح جلدي، يجعل المناطق التي يظهر عليها تشبه جلد الأوزة، ويحدث نتيجة تهيج الجلد بسبب العرق الذي لا يتبخر ولا يتخلص منه الجسد، ما قد يسبب انسداد غدد العرق، ويشعر الإنسان بحكة شديدة بسببه.
- أخف درجة من درجات التشنجات الحرارية (تشنجات تصيب الإنسان بسبب ارتفاع الحرارة)، وتستمر لعدة دقائق، وتحدث نتيجة فقدان أملاح وسوائل الجسم خلال التعرق، وعادة ما يسبب نقصان الأملاح في الجسم لتقلصات عضلية مؤلمة، وقد تحدث هذه التشنجات أثناء العمل أو بعده، وعادة ما تكون العضلات المستخدمة في العمل هي الأكثر تضررا.
- الجفاف، كنتيجة مباشرة لإنتاج الجسم كميات عرق كبيرة في محاولته للتبريد.
- رغم اختلاف الاجهاد الحراري عن ضربة الشمس فإنه قد يؤدي للإصابة بضربة شمس.
- إن لم يتم تبريد جسد المصاب، فغالبا ما تكون المرحلة الثانية من الإجهاد أو الإنهاك الحراري هي دخول الشخص في حالة إغماء، وقد تسوء حالته لدرجة الموت.
الوقاية من الإجهاد الحراري:
تتعدد التدابير الوقائية التي تحمي الناس من الإجهاد الحراري... وتتنوع ما بين تدابير جمعية، وتدابير فردية، كالتالي:
-من المفيد جدا أن تقوم الدول باتخاذ تدابير صحية عامة، تمنع العمل في خلال موجات الحر الشديد، أو حتى خلال الوقت الاكثر ارتفاعا في درجة الحرارة من اليوم (١١ صباحا حتى الثالثة عصرا).
-شرب الماء البارد باستمرار أثناء العمل.
-الحصول علي أوقات راحة خصوصا في ذروة ارتفاع درجة الحرارة، وتوفير أماكن باردة في العمل للراحة فيها.
-اذا ظهرت أي أعراض من أعراض الإجهاد الحراري علي أحد العمال، من اللازم ابعاده عن العمل هذا اليوم.
العلاج:
اذا شعرت بأعراض الإجهاد الحراري، وخصوصا إذا ما كنت من الفئات العالية في احتمالية الإصابة، قم بما يلي:
- توقف فورا عن اي نشاط، واسترح تماما.
- غادر مكان العمل، واذهب لمكان بارد اكثر سواء كان به مروحة أو جهاز تكييف.
- شرب الماء بكثرة.
- اذا كان الشخص يعاني من تشنجات. قم بتدليك المنطقة التي يعاني منها، وسيكون مفيدا أن تعطيه ماء به كمية قليلة من الملح، أو مشروب من المشروبات التي تسمي "إلكتروليتات" ومنها ماء جوز الهند، وبعض أنواع المشروبات الرياضية. وهنا ينبغي الإنتباه إلي أن العلاج الناجح في مرحلة التشنج يمنع الحالة من التدهور نحو إجهاد حراري كامل.
- من فضلك اذا لم تشعر بتحسن خلال ساعة، أو اذا كنت متابعا لحالة مصاب بالاجهاد الحراري، ووجدت ان حالته لا تتحسن خلال ساعة، انتقل إلي الطبيب فورا، ولا تنتظر لان الحالة تكون في طريقها للتدهور.
الاختلاف بين الدول:
تفرض الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بل والجغرافية المختلفة بين الدول كلمتها فيما يتعلق بقابلية السكان للتعرض لخطر الإنهاك أو الإجهاد الحراري.
المناخ هو العامل الأهم معنا، فالدول التي تحظي بمناخ معقول في الصيف تنخفض فيها نسب المصابين بالإجهاد الحراري، علي عكس الدول التي تتخطي درجات الحرارة فيها الأربعين، وتلامس عتبة الخمسين درجة مئوية أحيانا، وإن كان الاحتباس الحراري، أصبح يصيب حتى كندا وبعض الدول المشهورة بالبرودة الشديدة، بارتفاعات قياسية في درجات الحرارة.
الظروف الاجتماعية في الدول أيضا لها دورها، فالدول التي تضع لوائح تمنع من العمل في أوقات الحر الشديد التي ترتفع فيها درجات الحرارة، تقل فيها معدلات المصابين بالإجهاد أو الإنهاك الحراري، علي عكس تلك الدول التي قد يعمل فيها العامل ساعات متواصلة تحت حر الشمس ولهيبها.
كذلك، فإن الوضع الاقتصادي للدولة يؤثر، ففي الدول التي يستطيع فيها العمال توفير لأنفسهم مياه مثلجة في مقار العمل، وعند الإنتهاء منه يعودون لمنازلهم في مواصلات مريحة ومكيفة الهواء، ثم يدخلون ليمضون باقي يومهم في منزلهم المزود بأجهزة تكييف كذلك، هؤلاء نسب الإصابة بينهم أقل من الذين لا يتمتعون بتلك المزايا.
إن التغير المناخي، ومعه الاحتباس الحراري، سيؤديان إلي زيادة شدة وتواتر موجات الحر الشديدة، وعلي البشر أن ينتبهوا لذلك، فما الإجهاد الحراري إلا أحد ظواهر ما يسببانه، وعلينا فورا أن نتخذ الوسائل والتدابير اللازمة لمواجهة كل هذا.