عند قراءة التاريخ، فتش عن المؤرخين ومناهجهم البحثية بدقة وحرص، لكن اسم (قاسم عبده قاسم) ومنذ اللحظة الأولي سيجذبك بسرد ممتع محيط بالحدث التاريخي من كافه الجوانب، لتشعر وكأنك تراه رؤيا العين.
غلاف كتاب ماهية الحروب الصليبية، الصادر عن عالم المعرفة، وهي سلسلة كتب ثقافية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت |
حصل الدكتور قاسم علي دكتوراه التاريخ من جامعة القاهرة بمرتبة الشرف
الأولي وعمل أستاذا بعدة جامعات منها (جامعة الكويت) ورئيسا لقسم التاريخ بجامعة
الزقازيق المصرية، كما نال العديد من الجوائز الرفيعة لجهده وكتبه وأبحاثه الهامة
ومنها مثلا: "رؤية إسرائيلية للحروب الصليبية"، "المؤرخون في
العصور الوسطي"، وكتاب "ماهية الحروب الصليبية" الذي أعرضه بإذنه
شخصيا والصادر عن السلسلة الكويتية الشهيرة (عالم المعرفة).
المقدمة:
لم يكتفي الدكتور قاسم كأغلب التدوين التاريخي العربي للحروب الصليبية بذكر المعارك، بل ذكر محاولته معالجة الظاهرة ودوافعها وأسبابها وظروفها التاريخية والنتائج، وقبل هذا الأيديولوجية التي أفرزتها. مركزا علي معادلة " العمل المشترك والوحدة لابد منهما للنجاح والنصر، علي حين كان التشرذم والتنازع سببا رئيسا للهزيمة". كما يوضح التماثل بين الحروب الصليبية والهجوم الصهيوني.
فكرة الحروب الصليبية: المنظور التاريخي:
يحدد دكتور قاسم بداية (الحركة الصليبية) في 27 نوفمبر 1095 بدعوة البابا "أربان الثاني" في حقل فسيح في كليرمون جنوبي فرنسا لحملة تحت راية الصليب ضد المسلمين في فلسطين، إذنا للدخول إلي رحاب التاريخ. ويعتبرها سببا رئيسيا لتعطيل الحضارة العربية الإسلامية، فبنهايتها لم يستطيع العثمانيين لثلاثة قرون إعادة الروح للحضارة العربية، ثم تبعهم الاستعمار، فضلا عن كونها مصدر إلهام للتجربة الصهيونية.
مع تحديد "الاختلافات" في "التأريخ"، فبينما يعتمد الوجدان الأوروبي الغربي والأمريكي علي "الأغاني الشعبية" في ميراثه عن الحروب الصليبية باعتبارها "شيء نبيل"، في حالة جهل مزري جعلت المؤرخ "نورمان كانتور" يقرر أن خريج الجامعات الأمريكية العادية لا يعرف سوى تاريخ بداية الحملات الصليبية عام 1095.
علي العكس في أوروبا الشرقية، لأن البلقان عرفت وحشية الحملات الصليبية الشعبية والأولي، وضاعت الإمبراطورية البيزنطية علي يد الحملة الرابعة، في حين لم يدرك مطلع التأريخ العربي أبعاد الحركة الصليبية، لأنه لم يرى سوى الإفرازات العسكرية، وتوقف تماما لقرون متتالية بسبب الركود الثقافي، وعندما عاد فقد عاد مبهورا بالمدرسة الغربية الأوروبية للتأريخ.
يضع الدكتور قاسم يده ببراعة علي "ينابيع الفكرة الصليبية" فيحددها بحالة تفكير سادت الغرب الأوروبي عن نهاية العالم بعد الألف الأولي من معاناة المسيح علي الصليب، وسيادة الغيبيات علي تفكير البسطاء وحكايات مثل الأطفال الذين يولدون بأربع أرجل أو أربع أيادي، وغيرها من الأفكار من هذه النوعية.
لكن وحسب مؤرخنا، فلم تخلق تلك الحالة بمفردها صيغة حاسمة للحملة الصليبية، ويرجع الفضل في هذا إلي (تسليح الحج المسيحي) و (فكرة الغفران). عبر تطور الحج المسيحي من رحلة سعي نحو الكمال إلي حج تكفيري أو للتوبة، ثم عسكرة الحج في كليرمون سنة 1095 ليصير الحاج الصليبي جنديا في "جيش المسيح".
البابا جريجوري السابع، صورة متاحة للمشاع العام |
كما تم التوسع في منح الغفران لمن (يشارك في الحملة، أو يرسل بديلا له) أو لمن يقدم التمويل، فتمهد الطريق لظهور فكرة (صكوك الغفران). هكذا تجهزت أوروبا ووضع البابا جريجوري السابع Gregory VII (1073 : 1085) الصياغة لفكرة الحرب المقدسة.
الظروف التاريخية والدوافع:
حدد الدكتور قاسم دوافع الغزاة، فالكنيسة هدفت لسيادة البابا المطلقة علي العالم المسيحي، أما النبلاء فيتوقون لتوسيع أملاكهم، وأما البورجوازية الناشئة والمتمثلة في القوة التجارية الايطالية فرأت الفرصة للسيطرة علي التجارة العالمية.
تلك كانت طبقة حكام أوروبا المتخلفة الريفية رغم تحسينها لأساليب الزراعة في القرن الحادي عشر. لأن ذلك التحسين زاد ثروات الإقطاعيين دون انعكاس علي الفلاحين، كما شهدت في العقد السابق للدعوة للحملات الصليبية سلسلة فيضانات وأوبئة غامضة ضربت كالمنجل كل قرية أو مدينة، فلم تدخل مكان إلا وحصدت أغلب سكانه. فمثلت دعوة البابا وعدا للناس بالخلاص من هذه المرارة.
شكلت القرية وقتها الوحدة الأساسية لأوروبا اقتصاديا، سياسيا، واجتماعيا، فيها أبرشيات أغلب قسيسيها أميين، يقدمون للناس أفكارا مشوشة وضيقة عن المسيحية وعن العالم، فنتج عن هذا الجو محرك جديد لأبناء الغرب الأوروبي المقهورين المتعصبين والمؤمنين أصلا بالخرافات للمشاركة في الحملة الصليبية.
في المنتصف بين الغرب الأوروبي والمسلمين، دخلت الإمبراطورية البيزنطية طور التآكل بعد عصور المجد والحضارة، وخير ما يشرح لنا أوضاعها يومئذ مقولة المؤرخ "ستيفن رنسيمان": (إن أحوال الإمبراطورية غاية في السوء، بحيث لا يقبل حكمها إلا رجل غاية في الشجاعة أو علي قدر كبير من البلاهة، لكن السنوات السبع والثلاثين التي حكم فيها "أليكسيوس" وسط أمواج السياسة والحرب الهادرة في شرق المتوسط، اثبتت أنه لم يكن شجاعا فحسب، بل كان في أعلي درجات الكفاءة السياسية).
كانت مشكلة بيزنطة الكبرى الهزيمة في "مانزكرت" أمام المسلمين وتسببها في اعتماد الجيش علي مرتزقة غرب أوروبا، مما سمح للكرسي البابوي بالمحاولة لتوحيد كنيستي القسطنطينية وروما.
أما العالم الإسلامي، فمع احتفاظه بإمكاناته العسكرية والبشرية وثروته الهائلة، كان يعيش في تشرذم بميراث قرن كامل من الحروب والمرارة المتبادلة بين كياناته السياسية، فلما وصل الصليبيين مضوا في البلاد كالسكين في الزبد.
الحملات الصليبية: عرض تاريخي:
باستعداد هائل وحماس غير متوقع من الجماهير التي وجدت فرصة في الحملة الصليبية لحياة أفضل في الشرق والخلاص في يوم الدينونة معا، تحدد 15 أغسطس 1906 موعدا للتحرك نحو الشرق.
تمثال لبطرس الناسك لا يزال قائما في مدينة أميان الفرنسية، صورة متاحة للاستخدام العام، License: CCA3.0 |
سبق الموعد "بطرس الناسك"، وهو راهب بينه وبين حماره شبه عجيب، بدعوته الفصيحة بين الفلاحين الذين تحركوا بقيادته في فوضي تثير الرثاء، وكم كان مخزيا للحملة الشعبية، كلمة افتتاح الحروب الصليبية أن تكون ضحيتها الأولي مدينة "سملين" المسيحية علي حدود المجر والإمبراطورية البيزنطية حيث قتلوا 4 آلاف نفس، ولسلبهم ونهبهم الممتد حتى القسطنطينية، قام الإمبراطور بنقلهم سريعا لآسيا الوسطي، حيث أجهز السلاجقة عليهم، وفر الناسك هاربا.
أما في أوروبا، تكونت الجيوش علي أساس اللغة أو الجنسية أو حتى الروابط الإقطاعية، وقد حدد الدكتور قاسم ذلك بالأمثلة، ثم شرح تعامل الإمبراطور البيزنطي "أليكسيوس" معهم عندما وصلوا القسطنطينية بالثراء والذكاء، فبالهدايا تارة وقطع المؤن أو حتى القتال تارة أخرى، أقسم له القادة جميعا يمين الولاء باستثناء "ريمون السانجيلي" الذي أقسم علي حمايته فقط.
وفي السادس من مايو 1097، وصلت جيوش الحملة إلي "نيقية" عاصمة دولة سلاجقة الروم، التي سلمت في التاسع من يونيو وبغيبة حاكمها "قلج أرسلان" للبيزنطيين المشاركين في الحصار، لا الصليبيين خوفا من وحشيتهم، ومع مطلع يوليو سرعان ما نشهد معركة فاصلة ضد الصليبيين خاضها قلج أرسلان بالتحالف مع غازي بن الدانشمند، انتهت بانتصار حاسم للصليبيين، لتتوقف المقاومة الإسلامية المنظمة.
فتبدأ مرحلة تأسيس الكيانات الصليبية في الشرق، بداية من مؤامرة "بلدوين" الأمير من بيت إمارة اللورين الأدنى التي نال بها الرها أول إمارة صليبية، بنكران الأيادي البيضاء لحاكمها الأرمني المسن عليه هو شخصيا.
تلتها "إنطاكية" بحصارها الطويل الملحمي، فضربت المجاعة جيش الصليبيين العاجز عن سلب القرى المحيطة بإنطاكية بسبب مقاومة أهلها، حتى أن بطرس الناسك نفسه غادر الحصار، وقايض "بوهيمند النورماندي" جميع القادة أن ثمن بقاءه هو وجنوده الأشداء من الجنوب الإيطالي هو أن يحكم إنطاكية حين سقوطها، ثم دبر خيانة مع أرمني فتح برج حراسة كان يتولاه ليلا فدخل الصليبيون المدينة، لكن قلعتها صمدت. ومن بلاد فارس وصل "كربوقا" قائدا لجيش الإنقاذ الإسلامي، لنصبح أمام حصار مزدوج.
وبمعجزة ملفقة من قسيس عن رؤية عرف فيها مكان الحربة التي طعن بها المسيح فكان لروايته أثرا معنويا هائلا إضافة لانقسام جيش كربوقا، فهزمه الصليبيون، وأصبح الطريق للقدس مفتوحا للصليبيين.
لخمسة أسابيع "7 يونيو : 15 يوليو 1099" حوصرت القدس، ثم دخلوها في حمام دم، ولنتخيل مدينة كاملة لم ينج منها أحد بخلاف قائد الحملة الفاطمية وبعض رجاله. انتشرت الجثث في كل مكان وأغرقت الدماء الشوارع، ووسط المذبحة صلي الصليبيون صلاة الشكر في كنيسة القيامة. واستقرت الأمور باختيار "جود فري البويوني" حاكما للقدس بعد مناورات سياسية عديدة ولقبوه (حامي الضريح المقدس)، كما هزموا أول حملة لإعادة القدس بقيادة "شاهنشاه" أمير الجيوش المصرية، فضربوه في عسقلان علي حين غرة، وهو ينتظر الأسطول.
الدخول الدموي للقدس، لوحة من القرن التاسع عشر، رسمها إميل سيغنول بعنوان (الاستيلاء علي القدس من قبل الصليبيين)، 15 يوليو 1099، Public Domin، wikimedia |
يعيدنا الدكتور قاسم مجددا لاسم "قلج أرسلان" أبرز المتصدين الأوائل للصليبيين، فنجده يتحالف مع أمير حلب، و"الغازي" أمير سيواس، ويهزموا (حملة المساعدة) التي جاءت بدعوة من البابا "باسكال الثاني" خليفة "أربان الثاني". في أول عمل جماعي ناجح للمسلمين. لكن يلي ذلك سقوط طرابلس الصامدة منذ سبع سنين، قاد خلالهم الدفاع عنها (فخر الملك بن عمار)، تسقط لتقوم الإمارة الصليبية الثالثة.
أنتجت الهزائم رأيا عاما بين جماهير المسلمين، وخطب الفقهاء عن القدس، ولم تخلوا حلقات الدرس من أحاديثها، كما كان لإعداد اللاجئين الهاربين من الإفرنج وما قصوه عن وحشيتهم دورا في تأجيج مشاعر الغضب.
ويحدد الدكتور قاسم عملية اغتيال تجهض أول حلف إسلامي قوي ضم (أمير سنجار، الأمير أياز بين ايلغازي، الأمير طغتكين أمير دمشق) والذي دمر جيشا صليبيا عند طبرية، لكن اغتيال "مودود" أتابك الموصل علي يد أحد الباطنية فتت التحالف
يظهر (عماد الدين زنكي) فدانت له الموصل 1127/521 هـ، ويصبح صاحب مشروع الجهاد ضد الصليبيين وينجح في ضم حلب ثم حماة فحمص، ليشكل مصدر تهديد للصليبيين ويستعيد الرها أول إمارة تسقط في أيديهم قبل أقل من خمسين عاما.
تتسارع الأحداث... وتصل الحملة الصليبية الثانية، بقيادة (كونراد الثالث) إمبراطور ألمانيا، و(لويس السابع) ملك فرنسا، فهزمهما المسلمون هزيمة منكرة، لكنهم وبالاغتيال أيضا يفقدون عماد الدين زنكي علي يد بعض خدمه، ليظهر ابنه (نور الدين) ويكمل نهج أبيه فيتصدى محاولة صليبية لاسترداد الرها، ويحقق ما حاول والده كثيرا أن يحققه فيدخل دمشق.
ينقلنا الدكتور قاسم إلي مصر التي ستصبح من الآن فصاعدا صاحبة كلمة الحسم، وفيها يومئذ الدولة الفاطمية الرجل المريض الذي يتسابق الجميع بالسيف والسياسة لينال تركته.
فهاهو الملك الصليبي "عموري" يحاول استغلال الفوضى ويعبر برزخ السويس حتى وصل (بلبيس)، لكن الوزير "ضرغاما" قطع جسور النيل فنجح في التصدي له. بينما وصل "شاور" حاكم الصعيد لبلاط نور الدين، مقرا له بالسلطة علي مصر وثلث مواردها، مقابل حملة قادها "أسد الدين شيركوه" وفيها شاب لن ينساه التاريخ، اسمه (صلاح الدين) برز بقوة وسرعة، حتى أن الخليفة العباسي أقره ملكا علي مصر والشام بعد وفاة نور الدين.
وجد صلاح الدين الصليبيون يغيرون علي سيناء، ويصلون حتى بحيرة البردويل، إلا أن أحطهم وأكثرهم حمقا كان أمير الكرك (رينالد دي شاتيون) الذي سحقه الأسطول المصري في محاولته لمهاجمة الحجاز.
كانت الاعتداءات الصليبية المتكررة مبررا كافيا ليبدأ (صلاح الدين) العمليات، فتقع الواقعة الكبرى في 24 ربيع الثاني/ 4 يوليو 1187 عند قرون حطين في فلسطين، حيث تم تدمير أكبر جيش صليبي تم جمعه، وأتبع هذا نزهة عسكرية أخذ فيها "عكا، يافا، بيروت، جبيل، عسقلان، غزة" ، وبعد حصار قصير وبتاريخ 27 رجب 583 هـ/ 2 أكتوبر 1187، دخل القدس بإنسانية مناقضة لوحشية الصليبين قبل مائة عام تقريبا.
لوحة رسمها الفنان السوري سعيد تحسين عام 1954، يظهر فيها صلاح الدين مع (غي دي لوزينيان) ملك القدس وقتها، بعد معركة حطين |
بالتأكيد كان لأوروبا هجومها المرتد، باتصال البابا "كليمنت الثالث" بملوكها، وفرضت ضريبة "عشور صلاح الدين"، واتحد الإمبراطور الألماني (فردريك بربروسا)، و(فيليب أغسطس) ملك فرنسا مع (ريتشارد قلب الأسد) ملك إنجلترا.
أما الأول فيغرق في نهر بالطريق في آسيا الوسطي، لتصبح مشاركة الألمان رمزية، وأما الثاني والثالث فأسقطا عكا في أيديهما، ويعود فيليب لفرنسا تاركا ريتشارد عاما آخر عقد فيه (صلح الرملة) مع صلاح الدين 588 هـ/ 1192. ليتضح لأوروبا أن إضافة مصر للمعادلة غيرها تماما، فدعي البابا "إنوسنت الثالث" لحملة ضدها، يصفها الدكتور قاسم بالمأساة، إذ انحرفت عن مصر لتقتحم القسطنطينية في 13 أبريل 1204 وسط فاجعة من النهب والذبح، لقد كانت الحملة الرابعة أكثر حملة يبرز فيها انعدام القيم والإيمان.
وكإثبات لمدى تراجع أوروبا الحضاري وقتها، ظهرت (حملات الأطفال) في فرنسا وألمانيا وغيرهما، لاسترداد القدس بعد فشل البابا والملوك بسبب (ذنوبهم). لكن الأطفال لم يستردوا شيئا بل انتهي بهم الحال جوعي ومرضى ومنهم من خاف ركوب البحر، ولا يعرف يقينا مصير من سافر فعلا.
تصل الحملة الصليبية الخامسة لتستهدف مصر تحديدا بمرجعية أن "هزيمتها/تحييدها" خير ضمان لبقاء المستوطنات الصليبية، واسترداد شرفهم العسكري الذي تمرغ في حطين، وحشد أكبر جيش منذ الحملة الثالثة، وفي نهاية مايو 1218 هوجمت دمياط التي ظلت القوات المصرية تزود عنها لأربعة أشهر حتى توفي (السلطان العادل).
لكن "الكامل" أكبر أبنائه تركها ليتصدى لمحاولة انقلابيه عليه، وتخاذل بعرض الصليب المقدس وبيت المقدس ووسط فلسطين ودفع الجزية عن حصون المسلمين ثمنا لترك دمياط، إلا أن الصليبيين خصوصا ممولين الحملة من تجار إيطاليا الراغبين في السيطرة علي ميناء دمياط الهام رفضوا كل هذا.
تجمد الموقف عاما ونصف بصمود دمياط، ليصل دعم كبير للصليبيين منتصف يوليو 1221، لكن المصريين حاصروهم قرب المنزلة وحسمت البحرية معركة أغرق فيها المصريون خامس الحملات الصليبية في الوحل.
مجددا نعود للكامل وقصته مع إمبراطور ألمانيا المعروف "بأعجوبة الدنيا" لتحدثه ست لغات منها العربية ومعرفته بالحضارة الإسلامية كونه ترعرع في صقلية التي تكثر فيها مظاهرها، مع عدم رغبته في قيادة حملة صليبية رغم نذره للبابا فلم يذهب (فريدريك الثاني) لفلسطين إلا بعد أن أصبح ملك القدس بزواجه من ابنه ملك عكا الراحل، وهناك تراسل مع الكامل، فشعر البابا بالغيظ وأمر بشن حملة ضد فريدريك نفسه وهو في فلسطين يؤدي واجبه الصليبي !!. لكن الأمر انتهي بهدنة عشر سنوات أعطت للإمبراطور الألماني القدس وبيت لحم وشريط من أرض بين عكا والقدس، ولم يبقي للمسلمين إلا المسجد وقبة الصخرة.
تزامن نهاية الهدنة مع ما يصفه دكتور قاسم "بالحرب الأهلية الأيوبية" في مصر والشام والجزيرة، فاستغلها البابا (جريجوري التاسع) بحشد حملة وصلت عكا، لتلتقي في نوفمبر 1239 بالجيش المصري عند غزة في معركة قاسية ربحها المصريين، وينفتح الطريق أمام (نجم الدين أيوب) الذي تولي العرش الأيوبي ليستعيد العرب بيت المقدس سبعة قرون قبل أن يدخلها جيش أوروبي آخر في الحرب العالمية الأولي، ثم الاحتلال الصهيوني عام 1967.
حملة صليبية جديدة تواصلت هذه المرة مع (المغول) بهدف تطويق المسلمين، لكن المغول رغم تبادل السفارات رفضوا التعاون مع الصليبيين لأن لهم أهدافهم الخاصة، لم يمنع هذا بركة البابا لتتحرك الحملة صوب مصر بقيادة (لويس التاسع)، وفي الرابع من يونيو 1249 وصلت دمياط التي أتعبت الحملة الخامسة، لكنها تسقط الآن بشكل لا يصدق.
لويس التاسع ملك فرنسا، صورة متاحة للاستخدام العام، لوحة زيت علي قماش رسمت بين عامي 1585 و 1590، من wikimedia Foundation |
في لحظات الحسم يقود السلطان المريض (نجم الدين أيوب) من المنصورة حرب عصابات ناجحة، ويأسر المصريين الكثير من الصليبيون ويطوفون بهم في شوارع القاهرة، لكن السلطان يموت يوم الاثنين الرابع عشر من شعبان 647 هـ، إلا أن الأمير (بيبرس) يوقف تقدم الصليبيين السريع نحو المنصورة، وفي محرم 648 هـ/ 1250 م يسحقهم عند فارسكور ويتم أسر لويس التاسع ويسجن في (دار ابن لقمان) القاضي حتى فدته زوجته بالمال.
كان بيبرس حاسما، فوحد مصر والشام مجددا وقاد عمليات عسكرية عنيفة شارك فيها في القتال ليسترد قيسارية ثم أرسوف وقلعة "صفد" ثم يافا ثم إنطاكية بعد أكثر من 150 سنة علي سقوطها في يد الصليبيين. تلاه (المنصور قلاوون) الذي قاد هجمات جيش مصر مستردا اللاذقية ثم طرابلس وبيروت، ومن بعده أبنه (خليل) الذي استعاد عكا لتنتهي دولة الصليبيين المرهقة في الشرق.
الحصاد:
كان مشهد سير ملك قبرص الصليبي من "آل لوزينيان" ذليلا مكبلا في القاهرة كنهاية لأعمال القرصنة والإغارة التي شنها علي مصر والشام هو النهاية الفعلية للصليبيين، التي أظهر حصادها حقيقة أن (الخلافة) بقت رمزا دينيا وواجهة شرعية لكنها انتهت عمليا، ليصعد بديلا عنها نموذج (الدولة الموحدة) التي تخصص مواردها للمجهود الحربي بقيادة ملك محارب ميدانيا، فثبت أن الخلافة العباسية أو الفاطمية لم يصلحا لصد الصليبيين، علي عكس دولة (عماد الدين زنكي) وابنه (نور الدين محمود)، ثم دولة السلطان الناصر صلاح الدين لكن حينما تخلي خلفاء الأخير عن سبب شرعيتهم وتفرغوا للمنازعات الداخلية بينهم، ورثتهم دولة المماليك الأكثر قدرة علي الحرب وكما يقول المقريزي: (مات الأيوبي الأخير جريحا غريقا محترقا).
اجتماعيا، كان للتواجد الصليبي لقرنين تأثيرا ضخما علي البنية الديموغرافية لسكان الشام بحدوث حالات (تطهير عرقي)، كمثال مدينة القدس التي قتل الصليبيين جميع سكانها في مذبحة تركت المدينة فارغة عليهم حتى أنهم اضطروا إلي نقل سكان بعض القرى المسيحية للعيش معهم.
بجوار هذا تصاعدت الهجرة إلي مصر فأصبحت محط الرحال حيث الأمان، ولقد أدت هذه الهجرة لزيادة أعداد سكان مصر التي رحبت بهم خصوصا بعد (الشدة المستنصرية) التي هزتها هزا لم تعرفه في تاريخها الطويل، كما جاء من العراق الكثير تاركين بلادهم بعد هجمات التتار، بل جاء من الأندلس المذعورين نتيجة الهجوم علي المسلمين هناك.
بخلاف هذا ظل بعض الصليبيين في الشرق حتى بعد نهايتهم عسكريا تماما لعدم امتلاكهم القدرة المادية أو الاستطاعة البدنية علي العودة فظلوا في الشرق وبمرور السنوات أصبحوا من أبناءه.
ظهرت أيضا فرق تصوف "دراويش"، وفرق تصوف فلسفي، وإن زاد النوع الأول من التصوف، لكن العلماء واجهوه، وحددوا للناس أن الطريق السليم هو مقاومة الصليبيين وليس مظاهر الدروشة.
اقتصاديا، زاد نصيب المدن الإيطالية في التجارة العالمية التي كان معظمها قبل الحملات لصالح الشرق، فخصمت تلك المدن من نصيب التجار المسلمين، لكن العالم عرف الكثير من منتجات الشام مثل الورق والسكر وصناعة الأثاث والعقاقير وغيرها. بدورهم ساءت أحوال الفلاحين في الشرق لتحملهم الكثير من نفقات الجيوش.
ثقافيا، لم يشهد القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي مفكرا مبدعا سوى "الغزالي" لأن حضارة المسلمين بدلا من حصد ثمار إنجازاتها، انشغلت بالدفاع عن نفسها. لكن حركة تدوين التاريخ وصلت لأرقي مستوى عرفه تاريخ الفكر العربي، وعلي صعيد الشعر ظهرت (النبويات) وهي قصائد مطولة للاستغاثة بالنبي ﷺ، وكثرت الرؤى التي يراه الناس فيها ﷺ بمقامه الشريف أو الخضر -عليه السلام- ، كما تجسد (السلف الصالح) كمفهوم اجتماعي ثقافي للمرة الأولي.
الخاتمة:
بخمس نقاط وضع الدكتور قاسم خاتمة كتابه الهام كاستنتاجات دراسته لهذه
الظاهرة التاريخية الكبرى.
الدكتور المؤرخ قاسم عبده قاسم |
- أولها: يواجه العرب مشكلة (المصطلحات) عند تأريخهم للحروب الصليبية، وأن عليهم الانتباه حين ينقلون المصطلحات الفكرية الغربية عموما، فينقدوها أولا كي لا يقعوا في استيراد مصطلحات مضادة لمواقفهم الفكرية والقومية.
- ثانيا: الفكرة الصليبية هي تطور لعوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية.
- ثالثا: الحملات الصليبية مشروع استيطان بهدف حل مشكلات أوروبا علي حساب الشرق وتحويله إلي مجال حيوي للنفوذ السياسي والاقتصادي لأوروبا.
- رابعا: هناك معادلة حاكمة للتاريخ السياسي للشرق، فمع التفرق بين الحكام والنزاع بين الفرق والطوائف انتصر الصليبيين، بينما وبدون لبس تقول المعادلة أن الوحدة هي التي أدت لهزيمتهم.
- خامسا: كانت نتائج الحملات الصليبية سلبية علي المسلمين، وأدخلت المنطقة في منحنى حاد من التدهور.
إن في هذا العرض دعوة لكل الباحثين العرب للتأريخ بهذه التقنية، فالكاتب لم
يفحص التاريخ من ظاهره فقط، بل حدد وبدقة التسلسل والارتباط الوثيق بين ما سبق
الحروب الصليبية وما تلاها حتى يومنا هذا، فقدم فهما أعمق وأوضح للتاريخ والحاضر
والمستقبل معا، ليتحول التأريخ في عالمنا العربي إلي ما يقوله الدكتور قاسم دوما (التاريخ يحمل في
داخله نوعاً من الإنذار المبكر لمن يعرفون كيف ينصتون إليه أو يحسنون قراءته).