بلاد الغال.. قصة شعب حكم أوروبا.. ثم انتهي من التاريخ إلي الأبد

كان قيصر الذي ولد قبل ١٠٠ عام بالضبط من ميلاد السيد المسيح عليه السلام، واحدا من أهم وأعظم حكام روما، بل أحد أعظم حكام التاريخ عموما، وهو نفسه الرجل الذي أنهي إلى الأبد (دولة الغال) تلك الدولة الأوروبية القديمة.

انتصار قيصر
قيصر في رداء أحمر، يجلس علي عرشه بعد انقشاع غبار احدي المعارك، يحيط به جنود جيشه المنتصر، وأسري الغاليك قد قيدت أياديهم خلف ظهورهم. صورة ملكية عامة. 

بين عامي ٥٨ : ٥٠ قبل الميلاد، غزا قيصر معظم المنطقة التي تشمل في عالمنا اليوم دول (فرنسا، بلجيكا، وسويسرا)، وحاول لمرتين غزو بريطانيا... لم يكن غزوا توسعيا عاديا، بل كتب به كلمة النهاية لبلاد الغال.

قيصر في بلاد الغال:

في تلك السنوات... وفي ذلك الغزو الذي شنته أقوى إمبراطورية في ذلك التوقيت، انطلق يوليوس قيصر ومعه الرومان نحو "بلاد الغال"، وهي للمفارقة التسمية التي أطلقها الرومان أصلا، ولم تكن تسمية هذا الشعب لنفسه.

شملت بلاد الغال وقتها (فرنسا، بلجيكا، والاراضي الألمانية الواقعة غرب نهر الراين، وجنوب هولندا وجزء كبير من سويسرا، وشمال إيطاليا ولوكسمبرغ)، لترتبط تلك التسمية الرومانية بها إلي الأبد حتى بعد انقسامها إلي عدة دول.

على هذه الأرض والتي بلغت مساحة سيطرتهم عليها 494000 كيلومتر مربع، أي ما يعادل (191000 ميل مربع) عاش شعب الغال، واشتركوا في عاداتهم الثقافية، كما اعتنقوا دينا واحدا، واعتقدوا فيما بينهم أنهم من أصل مشترك، والأهم أنهم كونوا جيشا واحدا.

وبرؤيته العسكرية الثاقبة واجه قيصر سكان تلك المناطق، وبحماسهم وتمردهم وتاريخ عدواتهم الطويلة ضد الرومان بقيادة قيصر ومن سبقه من الحكام، قرر الغاليون من جانبهم عدم الاستسلام ومواجهة ذلك الغزو.

إنها واحدة من أكثر صفحات التاريخ تشويقا... وهي كذلك الحملة العسكرية الوحيدة في التاريخ القديم التي كتب أحداثها القائد العسكري الذي شنها بنفسه.

إذ كان يوليوس قيصر مؤرخا لحملته -وإن كتب بالطبع عما يحبه هو- فإنه نقل لنا الكثير من التفاصيل الدقيقة عما حدث. ولعل من أبرز ما أشار إليه، تكتيكاته في المعركة ضد الملك "أريوفيستوس".

في تلك المعركة، قسم قيصر جيشه إلي ستة فيالق، وضع علي رأس كل فيلق قائد من قادته الكبار وكان عددهم خمسة.

بلاد الغال
لوحة رسمها السير جون سوان، وهو فنان ومهندس معماري بريطاني عام 1815، تمثل عبور قوات الرومان نهر الراين عبر الجسر الشهير الذي أقامه قيصر فوقه، كانت تلك حملة غير ناجحة شنها قيصر عقب انتصاراته على الغال، public domain.

فيما أبقي قيصر لنفسه الفيلق السادس تحت قيادته ووضعه في ميمنة الجيش حيث بدأ بنفسه الهجوم من ذلك الموقع الذي لاحظ وجود ضعف في وجود جيش الغاليك فيه.

لم يكن ذلك التقسيم للجيش تكتيكا عسكريا مستحدثا أو من إبداعات قيصر، لكن يوليوس اراد أن يعرف كل جندي في جيشه، أن هناك ضابطا كبيرا معه في الموقع، يراعي تطورات المعركة، ويقود جنود الإمبراطورية الرومانية الشجعان.

انتهي الأمر بانتصار قيصر، واستعمر الرومان بلاد الغال، والتي أصبح اسمها بعد ذلك (كيسالبينا الغال) أو (كيسالبينا غول).

وعلي ما يبدو، فلم تكن أيام قيصر في بلاد الغال سهلة علي الإطلاق، لكن وبكل تأكيد فإن أيامه في روما بعد عودته كانت أصعب.

حيث واجه هناك ثورة داخلية ضده، لكنه أعلن أنه الحاكم الابدي والأوحد لروما عام ٤٤ق.م، منهيا تلك الثورة، ولكن جذورها تحت الأرض بقيت حية، حتى انقض عليه اعدائه واغتالوه في وقت لاحق من نفس ذلك العام.

وسواء كان قيصر قد قال "حتى أنت يا بروتس.. اذن فليمت قيصر"، حين شاهد صديقه المقرب بروتس يشترك في طعنه مع الطاعنين في مؤامرة مجلس الشيوخ ضده... أو كانت تلك العبارة هي مجرد جزء من حوار تخيلي كتبه "وليام شكسبير".

قتل يوليوس قيصر
لوحة تمثل لحظة قتل يوليوس قيصر، لوحة رسمها ويليام هولمز سوليفان عام 1888، public domain.

علي أي حال بقيت تلك الكلمات تعيش بيننا حتى اليوم، كتعبير عن غدر الأصدقاء والمقربين. ولدينا في تراثنا العربي ما يماثلها لكنها أكثر حداثة بكثير، وهي مقولة الشاعر اللبناني جبران خليل جبران (١٨٣٣ : ١٩٣١). "عندما أصابت الرصاصة قلبي لم أمت.. لكني مت لما رأيت مطلقها".

ما بعد قيصر:

كان من الضروري، وضع ذلك التوضيح المبين لدور قيصر في جعل بلاد الغال جزء من الإمبراطورية الرومانية.

أصبحت الشعوب التي تسكن هذه المناطق كلها جزء من الشعب الروماني. وامتهنوا الزراعة بشكل أساسي، مواصلين حياتهم في شكل القبائل، لكنهم خضعوا لملاك الأراضي الزراعية ولم يعودوا كما كانوا من قبل هزيمتهم قادة القبائل أو زعمائها.

هكذا هي الهزيمة دوما .. لابد لها من ثمن يدفعه المهزوم.

كانت قبائل الغال تعيش تلك الأيام في حناجرها حسرة ومرارة وألم علي مجدهم الضائع. ودولتهم التي مزقها الرومان بسكين التقسيم الإداري لثلاثة مقاطعات وأحيانا أربعة، وإجراءات متعددة جعلت أرضهم، ثم جعلتهم هم أنفسهم يكتسون بصبغة الرومان، لتنتهي وحدتهم.. وإلي الأبد، فاقدين قدراتهم علي العودة للعيش سويا، داخلين كتاب التاريخ كذكرى.

سقوط روما:

لنعود للخلف بآلة الزمن نحو ٥٠٠ عام دفعة واحدة، سنجد نفسنا في القرن الخامس قبل الميلاد.

نري قبائل الغال (باللغة اللاتينية: Gallia، باللغة الفرنسية: Gaule)، تهاجر من وادي نهر الراين في رحلة نحو الجنوب حيث ساحل البحر المتوسط.

فيما تشير مصادر أخرى إلى أن هذه الهجرات كانت منذ القرن الثامن قبل الميلاد، وإن كانت وتيرتها قد زادت منذ القرن الخامس، مرجعين أصل قبائل الغال إلى حضارة من حضارات العصر البرونزي تسمي (حضارة أورنفيلد).

خريطة الغال
خريطة تبين مدى اتساع ملك الغاليك في تلك الحقبة، صورة رخصتها Feitscherg للاستخدام العام، وهذه النسخة من ويكيبيديا. 

استغرق الأمر منهم بعض الوقت، لكن ومع حلول منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، كانوا قد اقاموا وامتلكوا الأراضي على مساحة واسعة من غرب أوروبا.

انطلاقا من شمال إيطاليا وبالتحديد من ميلانو إلى ساحل البحر الأدرياتيكي، وفي الشرق كانت حدودهم هي نهر الراين وجبال الألب، والبحر المتوسط ووادي بو وجبال البرانس جنوبا، والمحيط الأطلسي وخليج بسكاي والقناة الإنجليزية في الغرب والشمال.

على امتداد هذه الأرض، كونوا مجتمعا قويا ذو ثقافة مميزة وجيشا جرارا، وتحدثوا سويا بلغة واحدة تسمي "لغة سلتيك" ويشار إليها كذلك باسم "لغة كلتية". والتي لا يتحدث بها أحد في عالمنا اليوم سوي الشعب الايرلندي.

الغال عاشوا في تلك الفترة بشكل رئيسي في مجتمع زراعي، مقسم إلى عدة قبائل، وكان زعيم القبيلة في الغالب يكون أحد كبار الملاك للأراضي الزراعية.

وهكذا تكونت بلاد الغال عمومًا جنوب وغرب نهر الراين، وغرب جبال الألب، وشمال جبال البرانس. 

نعود إلي الرومان في روما والذين كانوا يتابعون بنظرهم تلك التحركات، قبائل الغال دخلت ايطاليا نفسها، واصبحوا عند جبال الألب.

وصل الأمر إلى درجة أن الرومان كانوا يسمون مناطق سيطرة قبائل الغال باسم "جانب قبائل الغال من جبال الألب"... فكأن الرومان وقتها قد ادركوا أنهم لا قبل لهم بتلك القبائل، فتقبلوا وجودهم كأمر واقع، مخيف ومدهش.

وربما كان ذلك الخوف الروماني نفسه من الاحتكاك بقبائل الغال، هو السبب الذي مهد للغالييك فيما بعد تحركهم من أجل اسقاط الرومان وعاصمتهم. إذ ظل الرومان سلبيين بموقف دفاعي، ولم يقرروا ابدا التحرك لمواجهتهم، حتى بعدما قررت تلك القبائل التحرش بالرومان وشن غارات عليهم.

كان عام ٣٩٠ق.م هو العام الفيصل، ففيه قررت قبائل الغاليك غزو الرومان في عقر دارهم، في روما ذاتها. وبالفعل نجحوا بعد ذلك في دخول روما ونهبوها في إذلال تاريخي أصاب الرومان عام ٣٨٦ق.م... ما خلق في نفوس أبناء روما النار اللازمة في صدوهم بغضا لقبائل الغار وحرصا علي الثأر منهم، برد الصاع إليهم وغزو بلادهم واحتلالها.

الانتقام:

بحسهم الوطني، تحرك الرومان بعد سقوط عاصمتهم ليلعقوا جروحهم، ويعيدوا جمع جيوشهم المشتتة، ودخلوا حلبة الصراع من جديد لكن هذه المرة أكثر عزما وتصميما.

حنبعل
لا يزال حنبعل شخصية وطنية في تونس حتى اليوم، هذه لوحة رسمها الرسام والمؤرخ الفرنسي جون تشابمان عام ١٨٠٠، من أرشيف هولتون / صور غيتي. 

مع حلول عام ٢٢٢ ق.م، كان الرومان قد حققوا جزءا كبيرا من الانتقام عبر انتصارهم في سلسلة من المعارك ضد الغاليك، استردوا خلالها ميلان، بل ودخلوا جزءا من أراضي قبائل الغال.

لذا فبحلول سنة ١٨١ق.م، اضطر ملكهم "سينوماني" للتحالف مع ملك قرطاج التونسي "حنبعل" القادم من شمال أفريقيا فيما يعرف في التاريخ باسم "الحرب البونيقية الثانية"، تحالف القرطاجيين "التونسيين حاليا" مع الغاليك ضد الرومان، لكن هذا الحلف لقي هزيمته في النهاية علي يد الرومان.

وعندما ولد قيصر عام ١٠٠ ق.م، اكمل مسيرة الانتقام من قبائل الغال، الذين ذهبوا بلا رجعة بعدما استمر حكم الرومان لهم حتى القرن السادس الميلادي، وهي فترة كانت كافية للقضاء علي فكرة الشعب الموحد لديهم. وإن بقيت ذكراهم في كتب التاريخ عن قصة شعب بلغ من القوة مبلغها، ثم انهار سريعا، ولغة يتحدثها شعب واحد.

الغريب أن الرومان لم يعتبروا مناطق بلاد الغال جزءا من إيطاليا وقسموها كما قلنا لثلاث مقاطعات أحيانا وأربعة في أحيان أخرى، ومع ذلك لم ينجح الغال في الحفاظ على أنفسهم كمجتمع واحد.

وحتى عندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى جزئين (شرقي وغربي) وبالرغم من الانقسامات الداخلية الحادة التي شهدتها خصوصا منذ عام ٣٩٥ ميلادي، فلم يقم الغال باستعادة كيانهم الموحد من جديد.

ربما يكون الوحيد من شعب الغال الشي حافظ على كيانه مستقلا عن الرومان هو (أستريكس) وهي شخصية كرتونية أبدعها الكاتب الفرنسي (رينيه جوسيني) في ستينيات القرن العشرين، وتدور أحداث Asterix the Gaul في العام ٥٠ قبل الميلاد، داخل قرية أستريكس الوحيدة من بلاد الغال التي لم ينجح الرومان في احتلالها حيث يخوض أهلها معارك ضدهم.

ونعود إلى أرض الواقع من جديد ..

فبرغم ذوبان الغاليك وسط الرومان، إلا أن الأخيرون يدينون لهم بأن الكتاب الغاليك هم من حافظوا علي الثقافة الرومانية ونقلوها للأجيال المقبلة في قصة التاريخ.

إذ مثلت كتب الغاليك مستودعا هاما للغاية للثقافة الرومانية، وخصوصا ما يتعلق بالأدب الروماني الكلاسيكي، بخلاف هذا، فإن الزائر للدول التي سكنها الغاليك تحت الحكم الروماني سيجد العديد من الآثار الرومانية لاتزال قائمة حتى اليوم. 

لا يوجد أي وجود موحد للغاليك في عالم اليوم، باستثناء بعض الأراء في الأحزاب القومية الفرنسية التي تري أن الفرنسيين حاليا هم أحفاد سكان بلاد الغال، كما ينظر لسكان شمال بلجيكا وأقليم الباسك في إسبانيا بنفس النظرة.

المصادر:

القانون في الخليج
القانون في الخليج
القانون في الخليج هي منصة إلكترونية صنعت خصيصا للتوفير المعلومات القانونية الدقيقة والموثوقة لكافة العاملين بالقانون وحتى الأفراد العاديين في دول الخليج العربي. إذا كنت إستاذا في القانون، قاضيا، محاميا، أو حتى قارئ عادي فستوفر لك القانون في الخليج المعلومة القانونية التي تحتاجها وفورا.
تعليقات