تتجلي دوما أهمية العلم وتطويره ومضاعفته بالبحث العلمي والانفاق عليه وتوفير متطلباته، وتلبية احتياجات كل القائمين عليه.
ومن أهم القضايا التي ثبت فيها ذلك، هي قضية تحويل القنابل الغبية إلي ذكية عبر حزمة توجيه جديدة يتم تركيبها عليها.
المسألة هنا ليست فقط عملية "تطوير"، ولكنها تمتد لتشمل الحفاظ علي مخزون كبير لدي الدول من القنابل الغبية القديمة والتي توصف بالغباء لأنها غير موجهة، بدلا من التخلص منه، ما يعني الحفاظ علي قوة عسكرية نيرانية ضخمة.
عملية تنظيم لقنابل الهجوم المباشر المشترك الذكية علي متن حاملة الطائرات الأمريكية يو اس اس كيتي هوك، في مارس ٢٠١٣ أبان غزو العراق، صورة من وكالة رويترز، بعدسة بول حنا.
كما يتجلي أيضا البعد الاقتصادي، الذي يحفظ الأموال التي دفعت في القنابل القديمة، ويحفظ كذلك مبالغ ضخمة كانت ستحتاجها الدول لاستبدالها بالذكية الحديثة بشكل كامل، فكل ما تحتاجه الآن انفاق مبالغ أقل كثيرآ لتركيب حزم التوجيه عليها فحسب لتصبح ما يسمي "بذخائر الهجوم المباشر المشترك".
وسط المعركة:
في السابع عشر من مايو الجاري ٢٠٢١، وافق الرئيس الأمريكي جو بايدن علي بيع صفقة أسلحة لإسرائيل وسط صراعها ضد الفلسطينيين الذين كان يجري حينها.
بلغت قيمة الصفقة ٧٣٥ مليون دولار أمريكي، وشملت تكنولوجيا وتجهيزات تحويل القنابل الغبية إلي ذكية أو لذخائر الهجوم المباشر المشترك، المشار إليها بالانجليزية اختصارا JDAM.
قنابل الهجوم المباشر المشترك محملة علي جناح مقاتلة أمريكية، صورة من موقع القوات الجوية الأمريكية.
لعل ذلك الاهتمام الإسرائيلي بتلك القنابل وسط المعركة، يعطينا نبذة عملية عن أهميتها في معارك اليوم، حينما يريد المهاجم أن يمتلك القدرة علي اصابة هدفه "بدقة متناهية".
ورغم أن إسرائيل تمتلك ذخائر الهجوم المباشر المشترك، وأنها استخدمتها بالفعل ضد غزة في جولة الصراع الاخيرة في مايو ٢٠٢١، إلا انها وفي ذات التوقيت، استخدمت القنابل الغبية خلال الأيام الاخيرة من القتال. فهل يمكن ان نتخيل أن إسرائيل استهلكت جزءا كبيرا من مخزونها من قنابلها الذكية خلال ما يقل عن عشرة أيام القصف دفعها لطلب المزيد وسط المعركة؟.
الابتكار:
كان الابتكار هو كلمة السر، ولذا تتسابق الشركات العالمية المصنعة للسلاح علي امتلاك أصحاب أفضل العقول منافسة شرسة، فابتكار واحد يخترق المعتاد، يوفر عقود وطلبيات للشركة لسنوات طويلة ممتدة، ما يعني فرص عمل، واموال تتدفق.
هكذا فعلت شركة "بوينغ" الأمريكية العملاقة حينما امتلكت مهندسين ابتكروا طريقة غير مكلفة لتركيب حزمة توجيه بالقمر الصناعي علي قنابل السقوط الحر، فتحولها من قنبلة غبية إلي ذكية موجهة.
توضع تلك الحزم علي شكل ذيل، وبضعة شرائط تثبت علي طول جانبي القنابل، وهكذا يتم تحديد موقع الهدف للقنبلة، تنطلق نحوه بدقة متناهية، فحتى وسط عاصفة رملية، لن تبتعد القنبلة عن هدفها سوى بضع ياردات.
البي-٢ حلقت من أمريكا نحو صربيا، وفي طلعة واحدة اسقطت أول ٨٠ قنبلة هجوم مباشر مشترك، في اول استخدام لها، واستخدمتهم ضد أهداف متعددة، صورة من موقع القوات الجوية الأمريكية.
في الحملة الجوية ضد الصرب في حرب البلقان، والتي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف الناتو بعد ارتكاب الصرب مذابح متكررة ومفجعة ضد مسلمي البوشناق في البوسنة والهرسك، في تلك الحملة الجوية ظهرت تلك القنابل المعدلة لأول مرة، وحملتها حينئذ القاذفات الشبحية الأكثر تطورا في العالم "بي-٢" التي كانت تطير من قاعدة ميسوري في الولايات المتحدة إلي صربيا رأسا، حينها عرف العالم قنابل JDAM 650 ومن خلالها نجح الطيارين الامريكيين من اصابة ٨٧٪ من اهدافهم خلال الحملة الجوية، وهي نسبة مذهلة في عالم الطيران، ومع ذلك علينا ان نتذكر ان تلك كانت النسخ الأولى من القنابل، والتي لم يتوقف تطوير حزم توجيهها حتى يومنا هذا، علاوة علي أن الأحوال الجوية خلال قصف الصرب، كانت ستؤدي لتدهور أداء أنواع أخرى من الأسلحة الذكية، ما كتب شهادة النجاح والاعتماد التي تركت غبائها القديم بلا رجعة بفضل حزم التوجيه من بوينغ.
وبدأت الأرباح تهطل علي بوينغ ، ففي يومنا هذا توفر هذه النوعية من القنابل للجيش والطيران والبحرية في أمريكا، ولست وعشرين دولة حليفة لها، وفي ٢٠ أغسطس ٢٠١٣، احتفلت بوينغ بوصولها لانتاج حزمة التوجيه رقم ٢٥٠،٠٠٠.
ذخائر الهجوم المباشر المشترك:
انها الهدف الذي تسعي إليه الكثير من أسلحة الجو لامتلاكه، وكذلك الشركات التي تصنع السلاح هي كذلك ترغب في انتاج حزم توجيه تحول قنابل الشقوط الحر الغبية إلي ذخائر ذكية دقيقة تستطيع العمل حتى في أصعب مناخ ممكن.
مقاتلة اف-١٨ سوبر هورنيت، محملة بخمسة قنابل هجوم مباشر مشترك اسفل كل جناح من جناحيها، باجمالي عشر قنابل.
بخلاف تركيب هذه الحزم علي جانبي القنبلة، يمكن أيضا ان تكون الحزمة علي شكل ذيل إضافي للقنبلة، يوضع به منظومة توجيه وملاحة بالقصور الذاتي، ووحدة أخرى تعمل بالتكامل مع منظومة تحديد المواقع العالمي GPS.
وهذه الحزم يمكن تركيبها علي قنابل زنة ٥٠٠ رطل، ١٠٠٠ رطل، ٢٠٠٠ رطل، وبالتالي يمكنها استهداف أهداف عالية القيمة سواء كانت ثابتة أو متحركة -لاصابة الأهداف المتحركة يلزم ان تشتمل حزمة التوجيه علي جهاز توجيه بالليزر يمكن تركيبه علي متن القنبلة في بضع دقائق، وهكذا تستطيع اصابة الأهداف المتحركة سواء كانت علي البر أو في أعالي البحار-.
إحداثيات الهدف المراد تدميره، يمكن تحميلها علي متن الطائرة التي تحمل الذخيرة حتى قبل اقلاعها...لكن وكما قلنا قد يحدث وان يتحرك الهدف علي الأرض، هنا يمكن للطيار أو لطاقم الطائرة عموما أن يغير الاحداثيات لموقع الهدف الجديد.
لكن بعض بيئات الطيران قد تحمل خطرا كبيرا علي الطائرة وقائدها، كوجود طائرات معادية مثلا أو أنظمة أرضية للدفاع الجوي، ويكون من المهم في تلك البيئات المعادية للطيار أن يجعل تركيزه منتبها معها، لذا فيمكن ضبط أجهزة الاستشعار علي الطائرة لتحدد هي بشكل آلي لذخيرة الهجوم المباشر المشترك موقع الهدف، وهل هو ثابت أو متحرك، وكل هذه البيانات لتنطلق نحوه وتدمره.
في حالة توافر بيانات نظام تحديد المواقع العالمي، فإن اقصي دائرة خطأ للقنبلة لن تزيد عن خمسة متر، وبالتالي فيجب أن يتم فهم أن الخمسة أمتار هي اقصي بعد، ويمكن للقنبلة أن تسقط بأقرب من هذه المسافة، علي بعد متر مثلا أو مترين وهكذا.
أما اذا لم تتوافر بيانات نظام تحديد المواقع العالمي، وهي نقطة قوة هذه القنابل بعد تحديثها، فسيتسع هامش الخطأ بشدة لنحو ثلاثين مترا.
هذه القنابل يمكن للطياريين استخدامها سواء كانوا يحلقون بطائراتهم علي ارتفاعات عالية أو منخفضة، ويمكن استخدامها تقريبا بواسطة جميع أنواع الطائرات الأمريكية الصنع الموجودة في الخدمة، وكذلك يمكن استخدامها بواسطة بعض انواع الطائرات بدون طيار.
بعض المعلومات الواردة بالموضوع، تم الاعتماد فيها علي المصادر التالية:
-هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي عربي".
-فوربس، لورين طومسون، كيف أحدثت قنبلة بوينج الذكية منخفضة التكلفة ثورة في حرب القصف الجوي.
-موقع القوات الجوية الأمريكية.
-وكالة رويترز.
-موقع شركة بوينغ الأمريكية.