للعام الخامس، يتمتع المسلمون وينتفعون في شهر رمضان المبارك ببرنامج "الإمام الطيب" الخاص بفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف ورئيس مجلس حكماء المسلمين.
وهذا الموضوع يتناول الحلقة السابعة والعشرين من رمضان ١٤٤٢ه / ٢٠٢١ م.
تمهيد:
بدأ فضيلة الإمام الأكبر حلقة اليوم، ببيان أن أحكام الشريعة الإسلامية منها ماهو ثابت دائم، ومنها ما هو متغير مرن، وأن النوع الأول كما يتصف بالثبات، يتصف بالكثرة والتفصيل وصعوبة إدراك الأسباب والعلل في تشريعه، بخلاف النوع الثاني الذي يتصف بقابلية التحرك مع حركة الإنسان علي الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كما يتسم بسهولة إدراك الغاية والمقصد من تشريعاته.
الثوابت لا تناقض العقل:
الإمام الطيب أضاف أنه قبل أن نسترسل في هذه الحلقة، فأنه يود التأكيد علي أننا حين نفرق ما بين الثوابت والمتغيرات، بأن الثوابت كالعبادات مثلا تستعصي علي البحث العقلي، فإننا لا نقصد أبدا أنها تعارض أحكام العقل وتناقضه، وأن الإنسان حين يخاطب بها، مخاطب بالإيمان بالمستحيلات.
فهاهنا يجب التنبة إلي الفرق الدقيق بين "التكليف بأمور مستحيلة التعقل في ذواتها" ، وبين "أمور معقولة في أنفسها".
لا تكليف بالمستحيل:
الدكتور أحمد الطيب أوضح أن الأمور المستحيلة لا يقع التكليف بها بحال من الأحوال، بخلاف الأمور التي يدرك العقل أسبابها، وأسرارها، وأثارها.
وبناء علي هذا التوضيح، أقول إن الإسلام والأديان بأسرها، وهي تخاطب الإنسان علي أي مستوي من مستويات الخطاب، لا تطلب منه أبدا أن يؤمن بما يرفضه عقله، أو أن يصدق بما يستحيل تصديقه.
وإنما تخاطبه بالإيمان بأمور، قد يستبعدها العقل، بالقياس بما تجري به العادة، ومن هذا القبيل، مخاطبة الأديان للإنسان ومطالبته بالإيمان بالحياة بعد الموت، وبالحساب والثواب والعقاب، والجنة والنار، وكل ما يتعلق بها مما يسمي في علوم العقيدة باسم "السمعيات" أو "الآخرويات".
معجزات الأنبياء:
شيخ الأزهر الشريف أضاف أنه ومن هذا القبيل أيضا، الإيمان بمعجزات الأنبياء، فهي ليست مستحيلة الحدوث، بدليل أن العقل يتصورها، ويتصور وقوعها، وإن كانت العادة التي تجري عليها أمور الناس تستبعدها.
فكلها، من قبيل الحقائق التي تقع، وموقف العقل منها لا يتعدي "موقف الحياد" الذي تتساوي لديه احتمالات الوقوع واللاوقوع.
والحياد، وإن كان يعجز عن إثبات شيء، فإنه يعجز وبالقدر نفسه، عن نفي هذا الشيء، وعدم التصديق به، وإذا فهمنا هذا الفرق الدقيق، سهل علينا إدراك صعوبة الأحكام التعبدية، الصادرة من الجناب الأقدس، علي مداركنا العقلية.
لكن ذلك لا يعني مطلقا، عدم معقولية هذه الأحكام في حد أنفسها وذواتها، وكل ما يعنيه أن هذه الأحكام هي من طور، يقع وراء طور العقول، ومن مستوي ليس للعقول السليمة حياله من موقف إلا موقف التسليم المطلق.
تفصيل وإجمال:
رئيس مجلس حكماء المسلمين أوضح أنه هكذا، يمكن أن نفهم من استقراء آيات الأحكام في القرآن الكريم، ان القرآن يفصل الأحكام في القضايا الدائمة وفي الثوابت التي لا تتغير، مثل الايمان والعبادات والأخلاق.
بينما يجمل الأحكام في المجالات المتحولة في صورة قواعد كلية، وأصول عامة، ومقاصد عليا كما سبقت الإشارة إلي ذلك، وكدليل علي هذا نجد أن الصلاة مثلا ، ذكرت في أكثر من سبعين موضعا في القرآن الكريم، في مقابل ما ورد فيه من تشريعات في عقد البيع مثلا، والذي هو من أكثر العقود أحكاما وموادا في القوانين المدنية.
هذا العقد، لم يرد بشأنه في القرآن الكريم إلا أربعة أحكام فقط، الحكم الدال علي اباحته. ((وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)).
والحكم الذي يشترط التراضي في التجارة بين البائع والمشتري. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)).
والحكم الخاص بإشهار البيع أو الاشهاد عليه. ((وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ)).
ثم النهي عن البيع والشراء بعد أذان صلاة الجمعة. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)).
القوانين والإسلام:
مولانا صاحب الفضيلة شيخ الأزهر الشريف أضاف أنه وكذلك الأمر فيما يتعلق بالقانون الدستوري، حيث اقتصرت نصوص القرآن الكريم في هذا المجال علي التأكيد علي مبدأ الشوري، ومبدأ العدل، ومبدأ المساواة، وأن أي نظام سياسي، يقوم علي هذه المبادئ، ويحققها بين الناس، فهو نظام يقبله الإسلام، أيا كان أسمه أو رسمه.
وكذلك قانون العقوبات أو الجنايات الذي اقتصر فيه القرآن الكريم علي ذكر العقوبات الخمس المعلومة، وهي عقوبة القتل والسرقة والزنا والافساد في الأرض بإرهاب أو ترويع أو اغتيال للأمانين أو تدمير للمرافق العامة ، بأي أسلوب قديم أو حديث، في ارتكاب هذه الجرائم اللاخلاقية، واللإنسانية.
وهكذا، أيها السادة المشاهدون، يمكن إيجاز القول بأن هذه الثنائية الواضحة، بين مجال "الثوابت" ومجال "المتغيرات"، هي التي مكنت تشريعات القرآن من قدرتها علي مواكبة التطور، كما مكنت شريعته من قيادة الأمة الإسلامية قرابة ثلاثة عشر قرنا من الزمان، قبل أن تخلي مكانها "أو يخلي مكانها" لقوانين الغرب.
وأن مرونة هذه الشريعة، هي التي حفظت حضارة الإسلام، وأمدتها ولاتزال تمدها بأسباب المقاومة والصمود، حتى يومنا هذا، وبسبب من إعجاز هذه الشريعة، لم تندثر حضارة المسلمين، وتصبح أثرا بعد عين، رغم الضربات الموجعة التي تسدد إليها، علي مدى تاريخها الطويل، من أبنائها، ومن أعدائها علي السواء.
شكرا لحسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة ﷲ وبركاته...
-المصادر التي اعتمد عليها الموضوع:
موقع يوتيوب، القناة الرسمية للأزهر الشريف، برنامج الإمام الطيب، الحلقة السابعة والعشرين