لقد نجت تلك البلاد من التاريخ، واحدة من بضع دول تعد علي أصابع اليد الواحدة يواصل شعبها الحياة منذ آلاف السنين بعناد وإصرار، كلما قابلته الحوادث والاختبارات علي كثرتها، فأصبحت مصر بتاريخها وجغرافيتها العبقرية.
حضارة عظيمة:
تباهى مصر الدنيا كلها بحضارتها القديمة العظيمة التي تجاوزت السبعة آلاف عام، ولا شك أن الآثار التي خلفتها من أهرامات ومعابد وتماثيل ومسلات وتحف تمثل ذلك الجانب المادي من حضارة المصريين القدماء.
لكن هذه الحضارة تركت كذلك ميراثا معنويا عظيما من العلوم الإنسانية والأخلاق والمثل العليا التي تشهد لهذه الأمة بعبقرية أصيلة في تكوينها ذاته.
ومن
أبرز ما ترك المصري القديم، هذا النظام القانوني الهادف لتحقيق العدالة، ومنظومة
قضائية مؤمنة بأن إقرار العدالة بين أفراد المجتمع هو السبيل لتحقيق السلام
والأمن، وبهذا تشترك هذه المنظومة القديمة قدم غبار التاريخ مع كل المنظومات
القضائية الحديثة من حيث الهدف. كما اشتركت في العديد من مظاهر المحاكمات الحديثة
مثل إجراء التحقيقات وتنظيم المحاكمات التي يديرها وتصدر أحكامها من قبل قضاة
متخصصين.
وبشكل عام يمكن أن نعتبر هذا الإرث القانوني قد بدأ ظهوره بشكل ثابت وملزم
ومتراكم مع توحيد الملك مينا للمملكتين العليا والسفلي. وبرغم حدوث تغييرات عديدة
خصوصا مع تغير الملوك والحكام، فإن المبادئ الحاكمة وهدف تحقيق العدالة السامي
ظلوا دوما ثابتين.
فجر الضمير:
ربما يكون من المفيد هنا الإشارة إلي مصدر أو منبع هذا النظام القضائي
الهادف لتحقيق العدالة، نستشرف هذا مما ذهب إليه المؤرخ وعالم الآثار الأمريكي
"جيمس هنري برستد" في كتابه الرائع (فجر الضمير)، الصادر عام 1934، إذ
ذهب إلي أنه وفي مصر تحديدا عرف الإنسان لأول مرة معنى الأخلاق والضمير في منظومة
سامية، فظهر الضمير مكتوبا قبل الوصايا العشر بألف سنة مما يعدون.
عالم الآثار والمؤرخ الأمريكي جيمس هنري برستد، صورة عام 1928. |
وفي مصر القديمة أيضا رأى الأستاذ برستد أن مفهوم العدالة اتسع ليشمل
"العدالة الاجتماعية" كذلك جنبا إلي جنب مع عدالة التقاضي.
يقودنا هذا للقول بأنه وفقا للتفكير المنطقي كانت الأخلاق والمثل العليا والضمير هي السبب الذي قاد إلي نتيجة هي منظومة قضائية عادلة حكمت بين الناس في أكثر عصور مصر القديمة.
بل يمكننا استنتاج أن من أهم أسباب ما نراه من منتجات
مادية عظيمة للحضارة المصرية القديمة، كان تلك المنظومة القضائية العادلة التي وفرت
الاستقرار لفترات طويلة في مصر القديمة ليتمكن المصري القديم من بناء أعظم حضارات
التاريخ.
ماعت:
في قصور ملوك مصر القديمة وفي أكواخ الفلاحين، استقر في معرفة الناس
ووجدانهم أن هناك محاكم دنيوية ومحكمة كذلك في الآخرة بعد موت الإنسان، يشتركان في
أنهما يعاقبان علي "أفعال السوء"، بينما يختلفان في القضاة وطبيعتهم
بشرية كانت أو غيرها وفقا لمعتقداتهم، وفي العقوبات كذلك.
رسم فرعوني وهو جزء من بردية شهيرة تسمي بردية العاني يوضح جزء من كتاب الموتى يظهر فيه وزن قلب الميت باستخدام ريشة ماعت. |
فبالنسبة للمحاكم في الآخرة، ظهر كثيرا في أروقتها التأثر بـ "ماعت" التي جسدت في ذهن المصري القديم معاني "الحقيقة والعدالة".
ماعت تلك هي ابنة إله الشمس (رع) وزوجة إله الحكمة
"تحوت" ... وهي المسئولة عن وزن قلب المتوفى كاختبار لازم في محاكمة
الموتى لمعرفة ما إذا كانوا صالحين في حياتهم أم لا... إذ يتم وضع قلب المتوفى في
كفة ميزان يقابله في الكفة الأخرى ريشة تمثل ماعت، فإما أن يتعادل القلب مع الريشة
فتكون تلك النتيجة التي ينجو صاحبها بها، وإما أن تثقل الذنوب القلب فترجح كفته،
فتلتهمه (الملتهمة الكبرى) وهي الوحش الذي يقضي علي المذنبين.
لكن هذا لا يمنع أن "ماعت" كفكرة، كان لها وجودها القوي في الحياة اليومية للمصري القديم، فهي بالشكل الذي شرحناه تمثل في الضمائر اختبارا ينبغي الاستعداد له، بمعني هي الدافع لفعل الخير، واجتناب الشرور والاثام، خشية من اليوم الذي سيوزن فيه القلب.
الأكثر من ذلك ما ورد في "حكم ماعت القديمة" ما
نشعر حين نقرأه أن أهمية الدولة نفسها وقيامها واستمرارها مرتبط بفكرة ومفهوم (ماعت)،
فنجد علي سبيل المثال: ((الدولة موجودة لتحقيق الماعت))، فجعل النص قيام الدولة
نفسها مرتبط بهدف تحقيق العدل ... فكأن العدل في مصر القديمة كان أساس الملك.
أن تكون مجرما:
أن تكون مجرما في مصر القديمة كان يعني ببساطة أنك ستعاقب وفقا للقانون،
لدينا مثلا جريمة السرقة، في الغالب الأعم كان القانون يقضي بإعادة الشيء المسروق
مع دفع قيمته إلي ثلاثة أضعاف.
كما نعثر كذلك على وجود لنظام (العمل الجبري) الذي لم تتوصل إليه الأنظمة
القانونية إلا حديثا كان شائعا في مصر القديمة، ومفهومه أن يؤدي مرتكب الجرم عملا
لصالح المجتمع بدلا من إدخاله السجن ما يجعل تجربته قاسية ويعرضه للاحتكاك مع
عتيدي الاجرام، فيخرج للمجتمع وقد أصبح مجرما خطيرا، ويعمل بهذا النظام بالتحديد
في الجرائم البسيطة.
بالطبع كان حكم الإعدام معروفا في مصر القديمة كعقاب لجرائم الخيانة أو
القتل.
سيادة القانون:
من دعائم العدالة في مصر القديمة، أن القانون كان سيدا علي الجميع، ومن
أشهر الأمثلة علي ذلك قصة المؤامرة علي الملك "رمسيس الثالث" والتي
يعتقد علي نطاق واسع أنها انتهت باغتياله، وتورطت فيها زوجته الثانية
"تيا"، وابنها الأمير "بنتاؤر" ومعهما عدد من الضباط والقضاة
وسقاة ملكيين ورئيس الحاشية.
كانت العقوبات رادعة وقاسية للغاية من المحكمة التي حاكمت هؤلاء المتهمين،
فتم صدور حكم الإعدام بحق معظم المتهمين وعلي رأسهم الأمير بنتاؤر ابن الملك رمسيس
الثالث، والذي كان يأمل بقتل ابيه أن يصعد إلي عرش مصر، لكنه وجد منظومة قضائية
حاسمة وقادرة لم تكتفي بمنعه من ذلك فحسب بل قضت عليه بالموت ونفذ فيه الحكم.
وإذ كان يمكن القول أن هذا حدث لأن الضحية كان ملكا ومن تولي الحكم بعده هو
ابنه الملك (رمسيس الرابع) فمن الطبيعي أن يثأر من المتآمرين ضد أبيه، فإنه يرد
عليه بأن هذه المحاكمة جاءت أصلا لأن المنظومة القضائية قوية وعادلة فهي التي
تدخلت لإقرار القانون وإعادة الأمور إلي نصابها ولو ضد الابن الضال للملك المغدور
أيضا.
مع ذلك فإنني ألجأ أيضا للرد علي هذا القول إلي قصة "الفلاح
الفصيح" ... تلك القصة التي تضمنت تسع شكاوى في تسع خطب اعتبرت من روائع أدب
الشكوى أرسلها فلاح بسيط إلي رئيس الموظفين "رنزى" يشكو فيها إليه موظفا
اغتصب حمير ذلك الفلاح وما كانت تحمله من محصول وهو في طريقه لبيعه في السوق.
في تلك الشكاوى التسع الكثير من العبارات القوية بل والصادمة من فلاح بسيط تكشف لنا ليس فقط عن بلاغة وفصاحة كاتبها، بل عن نظام عدالة يحمي الضعيف ويمكنه من عرض مظلمته بكل قوة ودون خوف من بطش القوي، بل إن بعض العبارات وصلت إلي حد اتهامات بالمجاملة والمحاباة بل وحتى بالفساد.
فنقرأ علي سبيل المثال من الشكوى
الثانية: ((اجعل لسانك يتجه إلي الحق، ولا تضل، وإن لسان الرجل قد يكون سبب
تلفه)). ((إن كيال أكوام الغلال يعمل لمصلحة نفسه، وذلك الذي يجب عليه أن يقدم
حسابا تاما لآخر يسرق متاعه، وذلك الذي يجب أن يحكم بمقتضي القانون يأمر بالسرقة
... فمن ذا الذي يكبح الباطل إذن؟)).
وتنتهي تسع شكاوى علي هذه الشاكلة القوية من فلاح بسيط بأن يقضي الحاكم
لمصلحته ويرد له المحصول والدواب بعد أن يكشف له تعمد تأخيره الحكم من أجل أن
يستزيد من بلاغته التي نالت إعجابه.